د. محمد بن عوض المشيخي **
تمكنت وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها من السيطرة على الخطاب الفكري والإعلامي للنخب والجماهير في مختلف أرجاء العالم على حد سواء؛ ساحبة بذلك البساط من وسائل الإعلام الجماهيرية، والمؤسسات الدينية والثقافية والتربوية التي كانت القنوات التقليدية للتوجيه والتعليم وتنوير الأجيال عبر القرون؛ فأصبحت معظم الناس تقضي ساعات طويلة متسمرة أمام الأجهزة الذكية؛ خاصة شاشات الهواتف التي سحرت قلوب وعقول مئات الملايين من البشر لتحولها إلى مصدر أساسي للمعلومات والترفيه والدعاية.
من هنا يأتي السباق بين المتنفذين في عالم المال والسياسة للاستحواذ على المنصات الرقمية التي لها تأثير واسع النطاق وغير محدود على الرأي العام العالمي؛ فقد تابعنا مثل غيرنا من المهتمين بهذا النوع من الإعلام الرقمي خلال الأسابيع القليلة الماضية الإعلان عن صفقة شراء منصة "تويتر" من قبل الملياردير الأمريكي الجنسية الكندي الأصل "إيلون ماسك" الذي تجاوزت ثروته 290 مليار دولار أمريكي متقدمًا بذلك على مالك شركة أمازون والناشر لصحيفة "واشنطن بوست" جيف بيزوس الذي كان متصدرا قائمة أثرياء العالم.
وبلغت قيمة صفقة العصفور الأزرق 44 مليار دولار أمريكي؛ إذ وافق إيلون ماسك على دفع 54 دولارا للسهم الواحد في هذه المنصة الاجتماعية التي تفضلها النخب والحكام والساسة في مختلف أرجاء المعمورة للتعبير عن وجهات نظرهم والتواصل مع الجماهير على المستوى الوطني وخارج الحدود. لكون منصة تويتر تتمتع بعدة مزايا مثل: اختيار الكلمات المعبرة عن الفكرة باختصار شديد، وكذلك المرونة والسرعة في إطلاق التغريدات والتفاعل مع مضمونها في زمن قياسي.
لعلنا نتذكر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي كان يقيل الوزراء من أعضاء حكومته عبر تويتر قبل إخطارهم من البيت الأبيض؛ إذ وصل عدد متابعيه أكثر من 88 مليون شخص، وذلك قبل إغلاق حسابه في الشهر الأخير من رئاسته بسبب مخالفته لسياسة المنصة. وقد عبر إيلون ماسك عن رغبته في فتح خوارزميات تويتر؛ التي هي عبارة عن سلسلة من التعليمات التي يبرمجها المشرفون بهدف حجب أو إبراز بعض التغريدات، وكذلك رفع سقف الحرية وإطلاق العنان لهذه الوسيلة إلى أعلى حد ممكن.
وعلى الرغم من مرور بضعة أسابيع على الاتفاق المبدئي بين مجلس إدارة المنصة ومقدم عرض الاستحواذ الكامل على تويتر، إلا أن هناك مخاوف من فشل إتمام هذه الصفقة؛ فقد اشترط ماسك إغلاق الحسابات الوهمية التي هي عبارة عن روبوتات رقمية تدار بواسطة لجان تتولى توجيهها نحو دول معينة بهدف إعادة التغريدات لخلق ما يعرف بالتأييد الشعبي المزيف، وتقدر هذه الأجهزة بعشرات الملايين. كما إن هناك العديد من الملاحظات غير المشجعة عن المالك الجديد المفترض؛ إذ يُتهم بأنه مزاجي وغير جاد، كما إنه دكتاتور ومعاد لحرية التعبير، خاصة الذين كانوا يخالفونه في الرأي من المقربين في شركته "تسلا" التي انخفض أسهمها بشكل حاد بعيد الإعلان عن الصفقة، كذلك انخفض سهم تويتر إلى مستوى غير متوقع.
ولا شك أن صفقة شراء العصفور الأزرق لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في عالم الإعلام الجديد؛ إذ يأتي محرك "جوجل" الذي يستحوذ على تسعين بالمائة من عمليات البحث في العالم في صدارة الإعلام الرقمي؛ حيث يعد هذا الموقع أكبر مكتبة متنقلة في العالم، فمع مرور الأيام تحولت هذه المنصة مرجعا للجميع من مختلف الأعمار على الرغم من وجود بعض المعلومات غير الدقيقة في مضامين ملفاته الإلكترونية؛ فقد اشترى هذا المحرك البحثي أهم منصة للفيديوهات والمعروفة ب "يوتيوب" التي تحتوي على مليار ساعة مشاهدة يوميا بمبلغ وقدره مليارا وستمائة مليون دولارا أمريكيا، كما إن العملاق الأزرق المعروف ب "فيسبوك" الذي تجاوز مستخدموه 3 مليارات شخص؛ منهم 2.8 مليار مستخدم نشط، وأرباحها السنوية فاقت كل التوقعات؛ إذ تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
وبالفعل في خطوة نحو احتكار المعلومات والسيطرة على سوق الإعلانات في أمريكا والعالم، سبق أن استحوذ العملاق الأزرق على أهم منصتين من منصات الجمهور في العالم، هما: الانستجرام (Instagram) الذي يستقطب الجنس اللطيف والمراهقين والأطفال، ويبلغ عدد المستخدمين لهذه المنصة أكثر من مليار شخص، وعلى الرغم من أن فيس بوك ويوتيوب وتويتر هي الأكثر من حيث أعداد المستخدمين، إلا أن الإنستجرام قد تفوق عليها، ليصبح ترتيبه الثالث والأكثر شعبية وانتشارا في معظم دول العالم. وقد كانت الصفقة المدفوعة لشراء هذه الوسيلة الاجتماعية مليار دولار أمريكي، وذلك بعد مرور عامين على ظهور (الإنستجرام) للوجود. أما المنصة الثانية فهي تطبيق الواتساب الذي تم شراؤه بحوالي 19 مليار دولار قبل عدة سنوات، بينما تجاوز رواده حاليا ألفين ومائتي مليون شخص حول العالم. ويعد الواتساب الوسيلة السحرية التي تحوي الكثير من المزايا؛ فهي الأكثر شعبية والأقل تعقيدا من حيث الاستخدام خاصة لعامة الناس.
لا شك أن هذه التطبيقات والبرامج التي تم اختراعها في الولايات المتحدة منذ مطلع الألفية الثالثة، بدأت كمبادرات صغيرة فردية أو ثنائية في معظمها قد تطورت بشكل مذهل وغير متوقع مع مرور الأيام؛ فقد تحولت إلى مشاريع عملاقة تقدر بعشرات المليارات من دولارات، مما ترتب على ذلك جذب رجال الأعمال للسيطرة على هذه الوسائل الاجتماعية لتحقيق أهداف معنوية قبل الأهداف الاقتصادية، وذلك لاستخدامها في التعبير عن الرأي، وكذلك كسب الرأي العام المحلي والعالمي.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري