حياة بعد التقاعد

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

هي: ساد التوتر في البيت، والوجوه تجهمت، والتواصل أصبح معدوما، يقضي ساعات طوال على السرير، وإن إفاق، فالكل يتجنب لقاءه لكثرة انتقاداته، وعصبيته المفرطة، فلم يعد هناك شيء على هواه، حتى سلوكيات الأبناء لم تعد تعجبه، يرفض مغادرة البيت أو القيام بأية نشاط صحته تتدهور منذ أن أصبحت حياته فارغة بعد التقاعد.

هو: لقد تغيّرتْ كثيرًا، فلم تعد تهتم بي كما في السابق، وتقضي جل وقتها في العناية بالأبناء والمنزل، والكل يتجنب الحديث معي ويهربون عند رؤيتي، أسرتي غريبة عني، في السابق كنت أقضي معظم وقتي في العمل حتى في الإجازات أذهب إلى العمل..فجأة كل شيء تغير ليس لدي أصدقاء ولا عمل.. وقتي أصبح فارغًا.

إنَّ متلازمة التقاعد أو متلازمة الزوج المتقاعد واقع حقيقي ظهر عام 1991 كمصطلح في الطب النفسي في اليابان، تصف الحالة النفسية التي تصبح عليها الزوجة، التي اعتادت عمل زوجها طوال سنوات، فتبدأ بالشعور بالمرض الجسدي والاكتئاب عند اقتراب زوجها أو تقاعده. نعم فالأسرة أيضا قد تصبح ضحية متقاعد يعاني الفراغ، ويتحول من شخص غائب طوال العام إلى رقيب يُراقب كل شيء كأنها أول مرة.

تلك أزمة يمر بها بعض المتقاعدين الذين أحسوا أنهم خارجون عن نطاق الخدمة، وانتهى دورهم في الحياة، فالبعض يُهمل نفسه وأناقته المعهودة وصحته ويغرق في حالة اكتئاب وحزن، فيقضون وقتهم في عد الأيام والشهور والسنوات في انتظار المصير المحتوم! يُجزئ البعض كلمة متقاعد إلى كلمتين (مت- قاعد) في وصف للحالة الإنسانية التي تتملك الإنسان بعد خروجه من العمل، وصفٌ متشائم لواقع البعض. والمجتمع ساهم وبجدارة في خلق الصورة النمطية عن المتقاعد فهو يخرج من دائرة الضوء إلى هامش الحياة دون رعاية أو مميزات.

التقاعد ليس النهاية؛ بل البداية لحياة جديدة بلا قيود من الروتين؛ فالمتقاعد ليس مضطرًا أن يجامل المدير المستفز ولا الزميل المتسلق، وغير مضطر أن يشارك في اجتماعات لا تنتهي.

نعم قد يخسر لذة قهوة سالم الصباحية بطعم الهيل والزعفران وماء الورد الذي اعتاد أن يحتسيها أول الصباح، وقد تفوته الجولات التفقدية بين المكاتب لبحث العلوم والأخبار، قد يفتقد زملاءه الذين يخففون عنه ضغط العمل بكوب من شاي كرك متوصي عليه طبعًا.

التقاعد حياة تخطط لها كما تشاء بلا ضغوطات، هي مرحلة طبيعية يمر بها كل موظف اعتاد على الروتين لعقود طويلة، ولنمط مُعين من الحياة الرتيبة يشعر فيها بفراغ مفاجئ جراء التقاعد، بعد أن يسلم الراية لغيره.

المتقاعد ليس صفرًا على الشمال؛ بل شخص يمتلك مهارات، وخبرات كثيرة في العمل والحياة، استطاع أن يبني مهنته وأسرته؛ فهو مخزون معرفي في الشؤون المالية والحياة والتربية، وحفاظًا عليه كمورد بشري نرى أن بعض الدول وضعت خططاً لتأهيل الموظفين المقبلين على التقاعد بدورات تدريببية وتأهيلية تساعدهم على الانسجام مع المرحلة الجديدة من حياتهم بوعي أفضل.

وفي الدول المتقدمة يحظى المتقاعدون باهتمام كبير؛ لأنهم يجمعون بين الخبرة العملية والعلمية، صقلتها المواقف والتحديات؛ لذلك تستعين بهم المؤسسات كخبراء ومستشارين وأساتذة في الجامعات والكليات. والإنسان الغربي بطبعه مقبل على الحياة؛ لذلك نجده يخطط لتقاعده بشغف بمشاريع ورحلات أو هجرة إلى المجهول ونمط جديد للحياة.

وفي الدول الآسيوية التقاعد يعني أن تستمر بالعمل، لكن بما يتناسب مع قدراتك والمرحلة العمرية؛ لأنهم يدركون أن التقاعد والفراغ سيتسبب في مشكلات اجتماعية وصحية للمجتمع. فقد ذكرت جمعية "ماكس بلانك" الألمانية أن العمل حتى أواخر الستين، يؤدي إلى إبطاء عملية التدهور المعرفي لدى الفرد ويساعد في مكافحة الأمراض التي تؤثر على الوظائف الإدراكية. أما من المنظور التقليدي والسائد للأسف في الدول العربية، فإنَّ رغبة المتقاعد في المشاركة الفاعلة بخلاصة خبراته للمجتمع- لا سيما في المؤسسات التعليمية- لا تُقابل بالترحيب باعتباره خرج من سباق المنافسة! فيضطر أن يقضي وقته إما في البيت أو بين المقاهي والأزقة لأنه غير صالح للعمل!!

استغربُ ممن يحصرون أنفسهم في كلمة متقاعد عند كل مناسبة كأن تقول طبيب متقاعد أو معلم متقاعد، فالظاهرة ليست صحية؛ لأنَّ التقاعد مرحلة والحياة تتكون من عدة مراحل أجملها ما بعد التقاعد.

الروائي ماريو بارغاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل يعمل 4 ساعات يوميًا وهو يبلغ الثمانين، ويعتبر الكتابة شغفًا حتى في الأوقات الصعبة، فهي ليست وظيفة بالنسبة له، ويؤمن بضرورة الاستفادة من الفرص وعدم ضياعها، لم يتوقف عن العمل؛ بل واصل العطاء بحب، فلماذا نتوقف عن العطاء ونحن نتنفس.

مرحلة التقاعد مرحلة جميلة، ومحطة استراحة من أعباء السنين يتفرغ الإنسان لشفاء نفسه وروحه ويعمل ما يحب لأنه تعدى مرحلة عمل ما يطلبه الآخرون. إنها مرحلة تحطيم القيود، والحرية الناضجة والبحث عن مغامرة.

البدايات كثيرة قد تكون في مشروع خاص أو هواية جديدة أو رحلة حول العالم، الحياة مستمرة بحلوها ومرها طالما نحن أحياء.. اخلع عنك رداء التقاعد وابدأ المغامرة.