"نجم الكليل ما حد يماريه"

 

علي بن سالم كفيتان

 

مع بدايات يونيو من كل عام، يرحل نجم الكليل حسب تقويم ظفار، ويُعرف كذلك بـ"الشلي"؛ لأنه يأخذ معه الناس والمواشي والمساكن، ويُطوى معه موسم الأعاصير والمنخفضات الجوية المعتادة، فقد اقترن هذا النجم- الذي يمكث 11 يومًا- مع أحداث جسام مرت بظفار؛ منها الغرق الكبير لسفينة الفوز عام 1959، التي قضى فيها الكثيرون نحبهم، ومن ثم إعصار 1963، وعاصفة 1977 التي سميت "سنة أقحران" لشدة سيولها وجرفها لكل شيء، وبعدها العاصفة الاستوائية عام 2002، وآخر تلك الاحداث إعصار مكونو 2018 (1).

ورغم قساوة الكليل، إلّا أنه يأتي في أشد أوقات المحل والقحط؛ فيغاث الناس والأنعام ويمهد لموسم خريف استثنائي في ظفار، فتكون السنة التي تليه سنة خير ونماء، وقد يتناسى البعض ما فقدوا، لكن الذكرى تظل قائمة في النفوس المثقلة بالذكريات المريرة؛ ليولد نجم آخر في ظفار مع بدايات يونيو وهو ما يعرف محليًا بـ"القلب"، والبعض يقول إنه تزيد فيه تقلبات الطقس، وآخرون يرون فيه تزايد نبضات القلب فرحًا أو حزنًا، فمن فقد عزيزًا عليه في غياهب الكليل تراوده نفسه المُثخنة بالجراح، فلا يرى البساط الأخضر الذي حل بعد المطر، سوى طُعما لفقد جديد، ويقول في نفسه كم أنت قاسٍ أيها الكليل.

وهنا أستحضر بيتين من قصيدة مشهورة قالها أحد أبرز شعراء ظفار في القرن الماضي وهو محاد غبراء بيت سعيد- رحمه الله-

برقت ورعدت والجبل سال من روس المخال// والسيل يجري في مجاريه

راعي السفينة بات مكتال في هم ونكال // نجم الكليل ما حد يماريه

لا أدري ما الذي كان يدور في نفس هذا الشاعر الكبير، وما هو وجه المقارنة الذي يريد أن يضعه في قصيدته التي ختمها بأن نجم الكليل لا أحد يجاريه، وهنا الاستدلال يُبيِّن حضور هذا التوقيت كفترة عصيبة تمر على ظفار بشكل دوري حتى دخلت في الموروث الأدبي الظفاري، ولا شك أن هناك الكثير من النصوص التي تناولت نجم الكليل بخيره وشره؛ فالناس هنا تعودت أن كل شيء جميل لا يأتي إلا بعد مرور أحداث إكليلية ونفوس متقلبة تهفو الى التغيير وتغني بحرقة للفقد، ولديها القدرة على إعادة ترميم ما انكسر، والصبر الى أبعد حد على جور وجبروت الإنسان والطبيعة معًا.

يُروى أن مدينة البليد الرابضة أطلالها اليوم في قلب صلالة كانت حاضرة الجنوب الجميل كجمال الجنة، ويسرد الرحالة والمؤرخون أسماء ملوك وسلاطين ودول مرت على المدينة؛ حيث المشهد باذخًا؛ فهناك القلعة العظيمة والجامع الكبير والبيوت الراقية المجاورة والممرات الفسيحة والساحة العامة - وكما يبدو من الآثار- كانت هناك عربات للخيول ومرابط لإبل القوافل والدواب الأخرى، وفي الجهة المقابلة على طرف القناة المائية يوجد السوق الذي تعرض دكاكينه بضائع الشرق والغرب وتدعمه المخازن الممتلئة باللبان والمر والسمن والقطن والذرة، وغيرها من خيرات هذه البقعة الاستثنائية من العالم، وغير بعيد على مدخل المدينة مع المحيط تدخل السفن المحملة بالبضائع، وتغادر أخرى مراسي البليد؛ حيث مساكن البحارة وورش النجارين والحدادين وصاغة الذهب والفضة.

ويقال إن الناس في هذه المدينة الغنيّة من شدة كرمهم يتخاصمون فيما بينهم على إكرام ضيوفهم؛ فيتخاطفونهم كالطير من الجامع الكبير. وهناك حكاية شهيرة تتناقلها الأجيال عن حادثة ضيف البليد التي أصبحت مثلًا فيما بعد؛ حيث أمسك كل طرف بيد الضيف ويشده في اتجاه حتى قضى بين أيديهم فصارت الناس تقول: "مثل ضيف البليد". وهنا تدخل السلطان، وأمر بأن يبني كل أحد مسجدًا جنب بيته، وكلٌ يكرم من نزل في جواره، فانحلت المعضلة لكن كثرت المساجد، وساد الرخاء والرفاه مدينة البليد -أو كما يسميها البعض "ظفار القديمة"- فصارت الخيرات تأتيهم من كل حدب وصوب حتى أغرتهم الدنيا، ولم يهتموا للنعم التي ساقها الله إليهم، فأتاهم غضب من السماء: ريحٌ عاصفٌ ومطرٌ شديدٌ وسيلٌ عرمرم في نجم الكليل؛ فدمر المدينة، فسموهم الناس بـ"أهل حرقم"؛ حيث يقال: "لا تستهزئ بالنعمة فيصيبك ما أصاب أهل حرقم".

الشاهد هنا من ذكر بعض هذه الحكايات والقصص المتداولة هو الاستدلال على قساوة نجم الكليل وحضوره القوي في المخيلة الجمعية للناس في ظفار.

*****

(1) شكرًا للمؤلف حامد باوزير على اهتمامه بتواقيت النجوم في تقويم ظفار، وربطها بالأحداث المهمة.