الطائيون القضاة الشعراء (13)

الشيخ أحمد بن صالح الطائي.. طبيب الفقراء ورفيق العلماء

 

ناصر أبو عون

Nasser@alroya.net

 

إنّ كلَّ العلم على سائر مصنّفاته (رُوحيّ وماديّ) أُعْطياتٌ وفيوضات لَدُنيّة؛ بنصِّ ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا- [الكهف/65]، أفاض بها ربُّ الأكوان، وخالق الإنسان على المصطَفَين الأخيار، الذين يتوافدون على أحواض التقوى، ثم يبيتون عند ربّهم، متدثرين بأغطية الورع، لا تغشيهم الشبهات، ولا يخوضون في أودية المحرمات.

والشيخ الطبيب أحمد بن صالح هو رابع إخوته: (عيسى ومحمد وموسى) أبناء (الشيخ القاضي صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف بن صالح بن محمد بن صالح بن سعيد بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن ماجد بن سليمان بن سعد بن أبي علي بن محمد بن مصلح البوشري الطائيّ جذورًا وأرومةً وظهْرًا وبطنًا)؛ أما نسبته إلى قبيلة (البطاشيَّ) فهو انتسابٌ (حِلْفِيّ وليس نَسَبيّ) وهذا ما أكده الشيخ القاضي محمد البطاشي- رحمه الله- حين نفى نسبة بني بطاش لطيء وأكده الكثير من العارفين في الأنساب.

وجدّهم الأكبر- وكان يشتغل بالطبّ والمداواة- مع ولادة نجم دولة اليعاربة خرج من قرية (إحدى) بوادي الطائيين، ويتوغل هذا الوادي في مسيره وتعرجاته عبر سلسلة جبال الحجر الشرقي في الطريق المؤدية إلى ولايتي (بدبد)، و(صور)، وهو وادٍ واسع المساحة، وتصطف الحجارة على حوافّه، وحصباؤه من الصخور الرملية، وتستوطنه أشجار (السمر) وتطل التلال المنفتحة من فوق الجبال على ضفتيه وعند التقائه بوادي ضيقة يصعب السير فيه، ثم حطّت قافلة الجد الأكبر في قرية (طيوي)، ثم خرج منها إلى (نزوى)؛ فلمّا سألوه: من أين؟ قال: أنا من طيوي، فقال له: إذن أنت طيوانيّ. فعلقت به وبذريته هذه النسبة، وإنما هو طائيّ).

وليس بدعا في هذا الزمان والأزمان الإسلامية الغابرة أن ينتسب الناس إلى البلدان وإن كانوا أشرافًا وسادة في أقوامهم وأصحاب شأن في قبائلهم؛ كما قيل لبعض أعلام الطائيين: (النزويّ)، و(السمائليّ)، و(العقريّ)، و(المسقطيّ) و(البوشريّ)، ومثل هذا كثير عند العرب؛ فربّما يذكرون الانتساب إلى القبيلة، ويتركون الانتساب إلى البلد، لكنّه بطول العهد وتقادم الزمان اقتفى الخلف أثر السلف في الانتساب إلى القبيلة والبلد معًا (انظر: كتاب الطائيين؛ سلمى بنت بنت سيف بن حمود البطاشية).

ولا غرو أن نجد أبناء وحفدة الشيخ القاضي صالح بن عامر الطائي- ولاَ بِدْعَ في ذلك- قد تنوّعت مواهبهم، وتعددت مشاربهم، وتباينت مصائرهم وإن تقاسموا جميعا بلا استثناء (صِنْعة الأدب)؛ إلا أنّ الإبداع المنطبع في ذواتهم وإن كان في أحد وجوهه الباطنة إرثٌ وميراث (جينيّ)، وفي وجهه الآخر هبةٌ إلهيةٌ ومِنحةٌ ربانيّةٌ، غير أنّ الأربعة (موسى وعيسى ومحمد وأحمد) كلٌّ أخذُ من الدنيا على قدرِ هِمّته، وما توفّر له من مُستقبلات شعوريّة، ومؤهلات عقليّة، ورياضة روحيّة، وصفات نفسانيّة؛ فكانوا ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل:88]، وعلامة فارقةً فيما خلّفَوا لنا من آثار علمية ومخطوطاتٍ أدبية.

فإذا ما عرّجنا على سيرة الشيخ (أحمد بن صالح بن عامر 1309هـ / 1892م وحتى وفاته 1365هـ/ 1946) الابن الرابع في أسرة الشيخ القاضي (صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي) لاستكناه آثاره، والبحث في صندوق أسراره وجدنا رجلا اختصه الله بفيض من علم الأسرار، وأسبغ عليه من أنوار المكاشفات وفتح له مصاريع الحقيقة، ووهبه من الدرّ المكنون وبسط له حجب الباطن، فـ"كلٌّ ميسرٌ لما خُلق له"؛ فاختصه الله بصنعة (تعبير الرؤى)، وهي علمٌ لدنيٌّ وفيضٌ رباني كما جاء في القرآن على لسان يعقوبَ قائلا لابنه يوسف -عليهما الصَّلاة والسَّلام-:﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ [يوسف:6].

لذا كان الشيخ (أحمد بن صالح الطائي) من ﴿عِبَاد اللَّه الْمُخْلَصِينَ﴾، ومهوى للباحثين عن (تفسير الأحلام)، والتَّوَّاقين إلى (تعبير الرؤى)، يقصده الرائون الحالمون من كلّ فجٍّ عُمانيّ عميق مُشاةً ورُكبانًا؛ ليكشف لهم حجب الأسرار، ويقف على أعتاب داره الحائرون؛ ليزيل عنهم غشاوة المجازات، ويفضّ مغاليق المجازات، وينير لهم عتمة الروح وظلمة الطين بمصابيح الأنوار اللدُنيّة؛ وهذا المعنى قاله غير واحد من أصحاب التفاسير القرآنية في بيان قوله تعالى على لسان يوسف بن يعقوب - عليهما السلام -: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ [يوسف: 101]، بأنّ المراد بـ(تأويل الأحاديث) تعبيرُ الرؤيا".

يتأبط سيف الإيمان، ويحمل مصباح الحقيقة مترجّلا في طرقات الله، قابضًا على جمر العشق الإلهي لاينظر في كتب تفسير الأحلام السابقين ليقيس عليها ويستشفّ معاني الرؤى، ويستنبيء غيبيات الرائي وإنما يستقرأ الوجوه والأحوال بفراسة المؤمن الكيّس الفطِن؛ وهي من سمات المُعبّر الثقة وتوافق ما قال به الشيخ محمد بن صالح العثيمين: بأنّ "تعبير الرؤيا ليس مكتسبًا، لكنَّه شيءٌ يقذِفُه الله في قلْب الإنسان"؛ على نحو ما تحدث القرآن مُخبرًا عن رؤيا يوسف لصاحبيه في السجن ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف: 37]. وهذا المعنى نجده عند (الدرديري) قد أورده في (الشرح الصغير) قائلا: "والعِلْم بتفسير الرُّؤيا ليس من كُتبٍ، كما يقعُ للنَّاس من التفسيرِ من ابنِ سيرين، فيَحْرُم تفسيرُها بما فيه، بل يكون بفهْمِ الأحْوال والأوْقات، وفراسة وعلم بالمعاني".

وفي جانب آخر من شخصية الشيخ (أحمد بن صالح الطائي) عثرنا على الطبيب الحاذق فقد خلّف لنا كتابين في (الطبّ التقليديّ) خطّهما بيديه، وقد كان يتوافد على داره كثير من أهل عمان وسائر مناطقها فقراء وأغنياء لا فرق بينهم في ميزانه فهم في الألم سواء طلبا لوصفة طبية درءًا للأوجاع وأملا في التشافي والمؤانسة بصحبته.

وهو في حقيقته ميراث نبويّ شريف ثابت بأصل صحيح السُّنة وتجارب الأولين السابقين، وأصلٌ متجذِّرٌ في سائر الثقافات والمجتمعات، وبدأ يعلو شأنه في الآونة الأخيرة بعد أن ظهر عوار العلاجات الكيميائية وأضحت تجارة دولية واسعة الانتشار والآن يعكف علماء الأنثربولوجي على دراسته واستكناه حقيقته وجمع آثاره من كتب الفلكلور والمأثورات الثقافة الشعبية، وتعرِّفه منظمة الصحة العالمية بأنه: "مجموع المعارف والمهارات والممارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات الأصلية للثقافات المختلفة، سواء أكانت قابلةً للتفسير أم لا، والمستخدمة في الحفاظ على الصحة وكذلك في الوقاية والتشخيص والتحسين أو العلاج من الأمراض الجسدية والعقلية".

أما عن حياة الشيخ أحمد بن صالح الطائي الاجتماعية والبنية الثقافية التكوينية لشخصيته فتؤكد المصادر أنه كان ملازما لمجلس أبيه صالح بن عامر بن سعيد بن عامر بن خلف الطائي قاضي مسقط، ودرس على يديه أصول الفقه الإسلاميّ في المذهب الإباضيّ، وكان من معاصري الشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي، والشيخ منصور بن عبد الله بن عبيد السليمي، والشيخ إبراهيم بن سعيد العبري المفتي الأول لسلطنة عُمان.

وتقول المصادر الشفهية أن الشيخ أحمد بن صالح الطائي اشتغل بالتجارة وكان على دراية بفقه (البيوع)، وأتقن أحكام وقواعد المعاملات المالية الإسلاميّة، وخَبُر فنون التجارة من أخيه عيسى وأبيه وقد اشتهر عنهم المتاجرة في اللؤلؤ وتصديره إلى دول شرق آسيا ومقايضته بمنتوجات وصناعات لم تتوفر في السوق العُماني عبر الأساطيل البحرية المتنقلة على طول سواحل المحيط الهندي.

وقد جمع الشيخ أحمد بن صالح الطائي بين زوجتين؛ أما الزوجة الأولى، فقد كانت تُنادى بـ(سلمى) واسمها [موزة الطيوانية]) وأنجبت له ثلاثة بطون هم: (محمد وهلال وخديجة)، أمّا الزوجة الثانية؛ فهي الفاضلة [شمساء بنت زاهر بن سلطان بن سيف بن سعيد بن أحمد بن عبد الله بن خلفان البكرية] وأنجبت له (عائشة وصالح).