رؤوس الأسماك ومثلثات الأجبان

 

طالب المقبالي

muqbali@gmail.com

 

"وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ" صدق الله العظيم.. قصص مأساوية لأسر تعيش بيننا، قد تصلنا أخبار بعضها، وكثير منها لم يصل، فالبيوت أسرار، كقصة صاحب رؤوس الأسماك، وقصة صاحب الجبن المثلث، وقصة المرأة التي تستأجر استراحة لأطفالها الأيتام لنصف يوم.

نمسي ونصبح ونحن وأسرنا ننعم بالصحة والعافية ونجد قوت يومنا، ونجد المأكل والمشرب والبيت النظيف الآمن، فإننا ولله الحمد والمنة في نعمة لا يعرف قيمتها إلا من فقدها. تطالعنا يوميًا وسائل التواصل الاجتماعي بتغريدات تشتكي الحال، وتنتقد الأوضاع المعيشية، للعديد من المواطنين في ظل قرارات التسريح العشوائية من قبل بعض شركات القطاع الخاص، في حين يتم استقدام العمالة الوافدة للإحلال المعاكس، وإشغال الوظائف التي سُرح العمانيون منها وإحلال العمالة الوافدة مكانهم!! هذا الأمر أدى إلى ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، ولكن هؤلاء الباحثين عن عمل لديهم أسر يعولونها، وعليهم قروض بنكية، مما أدى إلى رفع قضايا ضدهم، ودخول كثير منهم للسجون، وتجويع أسرهم، نعم تجويع أسرهم الذين لا يجدون من يعيلهم وينفق عليهم مما يترتب على ذلك تداعيات لا أول لها ولا آخر، ولا أود التطرق إليها لأنها ستدمي القلب، وتشعرنا بالألم والحسرة.

ولعلي هنا أسرد بعض القصص لبعض المآسي من حالات وقفت عليها شخصياً أو علمت بها من مصادر موثوقة.

فالحالة الأولى وقفت عليها بنفسي شخصيًا حين كنت في مخبز لشراء احتياجاتي من المخبز، وقد كان هناك أب بصحبة ابنه، اشترى كيسًا أو كيسين من الخبز، وكان بينه وبين ابنه حوار على زاوية من المخبز، وكنت أسمع تحاورهما، يقول الولد لأبيه "أبي اشتري لنا علبة جبن مثلث، فنحن منذ زمن بعيد لم نأكل الجبن"، ردَّ عليه الأب قائلاً: "يا ولدي ليس لدي مبالغ لأشتري الجبن"، ومع إلحاح الطفل قال الأب سأشتري لكل واحد منكم مثلث واحد، أي قطعة جبن واحدة، فطار الابن من الفرح.

فبينما كنت أحكي هذه الحكاية لصديق للعبرة، قال لي صديقي وأنا سأحكي لك حكاية غريبة، يقول: كنت أذهب إلى سوق الأسماك لشراء الأسماك، وفي كل مرة أرى شخصًا أعرفه يأتي مُتأخرًا ولا يشترى شيئًا، رأيته عدة مرات فارتبت في الأمر، ودفعني الفضول لأسأله عن سبب مكوثه متأخرًا دون شراء شيء، فدنوت منه وسألته، فلان لاحظتك أكثر من مرة تأتي إلى سوق الأسماك مُتأخرًا، والمعروف أنه من يأتي مبكرًا يفوز بأجود أنواع الأسماك.

قال الرجل: سأصارحك بأمر لأنك عزيز عليّ، ولكن هذا بيني وبينك، قلت له تكلم فسرك محفوظ. فقال: أنا معاشي ضعيف جدًا، وأحضر إلى السوق مُتأخرًا لأنني لا أجد المال لشراء الأسماك، فأنتظر حتى يرحل الناس، ثم أذهب إلى المكان الذي يجمع فيه بائعو الأسماك مخلفات الأسماك قبل أن يحملها العمال المكلفون بتنظيف السوق ورميها في حاوية القمامة فآخذ رؤوس الأسماك والعظام وأحملها للمنزل لطهيها ونتناولها عند الغداء وأطفالي في سعادة.

وقبل أيام توجهت أنا وصديق لي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بقصد شراء سيارة لصاحبي، وبطبيعة الحال في الطريق نتبادل الحديث. وصاحبي لديه استراحة، وذات يوم طلبت منه امرأة أرملة وأم أيتام استئجار الاستراحة بمبلغ 25 ريالا لتقضي نصف يوم مع أولادها في تلك الاستراحة.

فقالت له المرأة وهي تسلمه المبلغ وكأنها تنتزع فؤادها من جسدها وهي تقول لصاحبي، أتدري أنَّ هذه المبالغ هي أموال أيتام استقطعتها من معاش الضمان الاجتماعي ليعيش أولادي نصف يوم في استراحة نظيفة بها دورات مياه ومطبخ أعدّ لهم فيه وجبة نظيفة لنأكلها في مكان نظيف كهذا.

استأذنها صاحبي، أن تقص عليه قصتها إن لم يكن هناك حرج، ولماذا استأجرت الاستراحة؟ قالت: نحن ليس لدينا منزل كبقية البشر، نعيش في بيت قديم مُتهالك ضيق لا تزيد مساحته عن أربعين متراً مربعاً وليس به مرافق صحية، ولا يقينا الأمطار عند هطولها، فالمنزل غير صالح للسكن الآدمي.

يقول صاحبي: طلبت منها أن أزور البيت وأصوره علني أجد لها حلاً لمُشكلتها، وبالفعل ضربت معها موعداً لزيارة المنزل، وعندما شاهدت المنزل أصبت بصدمة من المنظر، فالأسرة تعيش حالة مزرية في منزل قديم متهالك مسقوف بالمواد غير الثابتة، وبدون مرافق. وبالفعل استطاع صاحبي من خلال التواصل أن يجد لهذه الأسرة متبرعًا لاستئجار منزل لها لمدة عام.

والسؤال هنا: وماذا بعد انقضاء السنة التي تم استئجار فيها منزل لهذه الأسرة، هل ستعود إلى ذلك السجن، أم ستجد من ينتشلها من هذه المعاناة وتحصل على منزل نظيف مكتمل المرافق كبقية أبناء هذا الوطن؟

مثل هذه القصص موجودة في بلادنا، وفي عدد من قرانا، في حين أن هناك من العمالة غير العمانية من يسرح ويمرح في بلادنا ويستمتع بخيراتها التي من المفترض أن ينعم بها المواطن قبل غيره؛ ففي شوارع مسقط شاهدت بأم عيني شبابا مراهقين من جنسيات أجنبية يجوبون الطرقات بسياراتهم الفارهة التي تصل أسعارها إلى أكثر من 30 ألف ريال، في حين يتجول ولدي الخريج منذ سنتين في سيارة قديمة طراز 2008 للبحث عن وظيفة، ومثله كثيرون!

فقد عمل كسائق سيارة جمع الخردة لدى عامل وافد يتأمر عليه وينتهره ويهينه، وهو يحمل بكالوريوس في تقنية المعلومات، ثم عمل في خدمات التوصيل للمنازل حتى أنصاف الليالي، في الوقت الذي تحقق فيه أسعار النفط صعودًا، إلا أن الحال هو الحال، والمواطن يعيش على الكفاف في بلد أعطت للآخرين حق تحويل أموالهم للخارج، بينما هناك من المواطنين من يعمل كبائع متجول، أو بائع مشاكيك وذرة حلوة، وقد سقت المثال بولدي وهو ليس الوحيد على هذا الحال وإنما المئات والآلاف من أمثاله.