خالد بن سعد الشنفري
كنَّا في السبعينات نسمع كثيرًا عن قصص وحكايات الصحون الطائرة في أمريكا والغرب وأوهمونا أنها لمخلوقات فضائية متطورة، خُضر وزُرق تهبط لاكتشافنا وربما احتلالنا، وأن بعض هذه المخلوقات "الخضر" سكان كوكب قريب من الأرض طلبوا اللقاء مع الرئيس الأمريكي واجتمعوا به فعلًا، وأن هناك صفقات تمَّت بين الطرفين، وأن أحد هذه الصحون "الزرق" هبط مرة في مزرعة فلاح أمريكي قوي البنية مفتول العضلات وصورت لنا كاميرات هوليود موقع الهبوط وبقايا رماد نتج عن هذه العملية، وكأنَّ هذا الصحن الطائر الذي يجوب الأكوان يعمل بالديزل ليخلف ذلك الرماد!
صدق الكثير من شعوب الأرض ذلك، ونحن على رأسهم بطبيعة الحال كعرب، صدقنا وأوهمونا أن هذا الصحن الطائر الذي هبط بمزرعة الكاوبوي الأمريكي نزلت منه بعض المخلوقات الفضائية واقتادت الفلاح إلى داخل الصحن الطائر، وهناك عرضت عليه أنثى فضائية راودته عن نفسها، رغم أن ما صوروه لنا هم أنفسهم عن هذه المخلوقات أنها عباره عن هياكل عظمية تكسوها جلود لا لحوم، فكيف أغرت امرأة العزيز الفضائية الفلاح الأمريكي وهي ما هي عليه؟! وللوصول إلى ذروة التشويق- كما في الروايات- سألوا فلاحهم بعد أن أنزله الفضائيون من مركبة صحنهم الطائر وغادروا الأرض محملين بجنينهم الأمريكي إلى كوكبهم والذي سيكون أول بشري سينشر ذرية أمريكا في الفضاء الخارجي: عن كيف كانت العلاقة مع الفضائية، فقال إنها لا تختلف عن الأنثى البشرية، إلا من حيث الأصوات فهي أشبه ببحيح الحيوانات!!
إنها بدايات الرسائل الهوليودية وذروة غطرسة أمريكا حتى بعد هزيمتها النكراء في حرب فيتنام مع دولة صغيرة في الحجم والبشر والإمكانيات، إلا أن همم أبنائها عالية، أما نحن العرب فقد أوهمونا بأن لقيطتهم غير الشرعية إسرائيل التي احتلت أرضنا تمتلك جيشًا "لا يُقهر" وصدقنا حتى فضحتهم غزة تلك المدينة العربية الصغيرة؛ لأنها المدينة العربية الوحيدة الحرة أمام بقية هذا العالم؛ فهو منبطح من أعلى قمة الهرم إلى قاعدته، ذلك الهرم الذي خرجت من بين فتحات قاعدته المهترئة من شدة الضغط قاعدة أنتجت "دواعش" وأباليس وأخواتها؛ ليتسنى لأمريكا بعد ذلك رجمهم بدلًا عنها.
كنَّا ما زلنا حينها متمسكين ببعض من هويتنا وقوميتنا العربية، وكان لدينا صحون أيضا وإن كانت من نوع آخر "صحون عابرة"، هي صحون إفطارنا في رمضان التي حافظت على روحانياتنا في هذا الشهر "شهر انتصاراتنا"، وكانت بيوتنا تطبخ صنفين أو ثلاثة من الطعام دون إسراف ولا تقتير، وهذه الأصناف القليلة تتم المهاداة منها للجيران، فرغم ضيق العيش في تلك الحقبة وعدم وجود مطاعم وفدت علينا من كل حدب وصوب من العالم، كما هو الحال الآن، وبعد أن اشتهرنا بأننا أصحاب نعمة لم نُحسن حتى استعمالها واستغلالها، فأصبحنا أكثر شعوب الأرض تبذيرًا وإسرافًا وجنونًا وفقدنا هويتنا حتى في طعامنا، وبدأنا مؤخرا التحول إلى طلب طعامنا من الخارج مع وجود الخدم ببيوتنا رغم وضعنا الحالي لأننا ببساطة شعوب كسالى.
كانت سفرتنا الرمضانية تثرى بصحوننا الرمضانية العابرة التي تتداول بين الجيران قبل الأذان، فلو لم يطبخ في البيت إلا صنفين أو ثلاثة من الطعام، فبتدوير هذه الصحون بين الجيران قبل الأذان تجد في النهاية أن كل بيت سيحظى بعدة أصناف تشبع جوعه وتبلل عروقه لا تسدها.
لا يفوتني الإشارة إلى أن من ذكرياتي الجميلة طفلا، مع هذه الصحون العابرة، والتي كنَّا نحن الصغار وسائل نقلها وعبورها بين الحواري والأزقة الضيقة (المغاصيص)، يحدث كثيرًا أن أتقابل في طريق توصيل صحني مع أحد صبيان الجيران يحمل بدوره صحنه، وعندما أساله إلى أين هو متجه اليوم فيجيبني إلى بيتكم، فأرد عليه وأنا أيضًا متجه اليوم إلى بيتكم! فيتم تبادل الصحون بيننا في نفس الموقع مع تبادل الضحكات، وكل يعود سعيدًا بما قام به إلى بيته.
اختفت اليوم بعد نصف قرن تقريبًا روايات وحكايات الصحون الطائرة وحلت محلها الصواريخ العابرة للقارات، تنطلق بسرعة عشرين ضعف الصوت، كالذي فاجأت به مؤخرا روسيا أمريكا والغرب والذين لا يمكنهم اصطيادها بأي مضادات يملكونها حاليًا لسرعتها المهولة، فأين صحونهم اليوم؟ وأين صفقاتهم مع مخلوقاتها في صد عابرات روسيا؟! وبالمقابل أين صحوننا الرمضانية؟!
على ما يبدو أننا استبدلناها بطائرات "مسيرة" لا ناقة لنا فيها ولا جمل، اللهم ضغط زرها لتنطلق أو قذفها في الهواء باليد، وتقوم هي بعد ذلك عنك بكل شيء من تصوير الهدف وتدميره، وحتى هذه لم ندمر بها إلا أهلنا وأنفسنا ومكتسباتنا، ولا نستحي بعد كل هذا أن نكبّر ونهلل بما دمرته فينا.. بئس ما أصبحنا عليه كعرب وبئس ما اقتنينا وما هللنا وكبرنا له وبطون أطفالنا خاوية تتضور جوعًا، أليس الأجدى الرجوع إلى صحوننا الحقيقية العابرة قبل أن تقضي علينا التخمة، قبل صحونهم وعابراتهم.