ناصر أبو عون
الشاعر الشيخ صالح بن عيسى بن صالح بن عامر الطائي (1932- 1990) أمّه كريمة العلامة القاضي الزاهد سعيد بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد الكندي، جدّه لأبيه هو الشيخ القاضي سعيد بن عامر بن خلف البطاشي المسكدي، وأخو جده هو حمد بن سعيد بن عامر بن خلف العقريّ النزويّ؛ كان حيًّا إلى سنة 1297هـ وهو أحد رجال "دولة الإمام عزان بن قيس"، وعمُّه الشيخ محمد بن عامر بن سعيد مدرس (الإمام الخليليّ) علومَ النحو والعربيّة، ووالده عيسى صالح بن عامر بن سعيد؛ قاضي مسقط وقاضي القضاة.. فها هو ينشد مفتخرًا بآبائه وأجداده "الطائيين والكنود" مؤرخًا لسيرة الأماكن التي نشأوا فيها وأصولهم التي تحدّروا منها، وبيوتهم التي نزلوا بها فيقول:
هم ملجأ للخائفين من العدا
والمؤثرين لمن أتاهم معسرا
///
قد كنتم (آل طيء) قدوة
لم يبق إلا (هاشم) علم الورى
///
علم الشريعة قد غلقتم بابه
وسعيتم في علم عصر قد جرى
///
وإذا ذكرت معاهدا في (بوشر)
من (آل كندة) هم ليوث في الشُّرا
///
نارت بهم (نزوى) (السويق) وردة
ودعاة حق لا يريدون الثرا
///
نزلوا بـ(بوشر) فاستقر مقامهم
نالت به مشرفا وعزا أوفرا
///
وإذا نزلت بدارهم في مقحم
لا تسمعن إلا الصلاة مكبرا
أما عن هجرة أسرة الشاعر من "سمائل الفيحاء" إلى مسقط واستيطانها بقرية بوشر فيرجع الأمر إلى نبوغ والده الشاعر القاضي عيسى بن صالح الطائي، الذي نضج عقله الفقهيّ، فعبّ قلبه من معين الفقهاء الأوائل، واستضوأ فكره بأنوار الأقطاب الإباضية الأماجد، وأَشْرَبَ روحه الحَييّة من بحرالأحكام الشرعية للشيخ العلامة حمد بن عبيد السُّليْمي، واستبصر على يديه فنون السياسة والدهاء، وتمثّل به في أحكام الشريعة والإفتاء؛ فجمع في شخصيته بين الفقه والشعر وعلم القضاء، واستوقد ذُبالة المجاهدة من جذوة الانتصارات العمانية في ذبِّ الأجنبيّ وطرده فاستعرت روحه الوطنية التواقة إلى الريادة والعطاء فكان جديرا بأن يكون الساعد الأيمن لأستاذه السليميّ الأيمن في أعمال القضاء. فلما أجاد وعلا في العلم نجمه، وارتفع بالإيمان والتقوى قدره، صار مساعدًا لأبيه في القضاء بمحكمة مسقط، ثم اعتلى منصة القضاء في ولاية مطرح، وانتهى بها المآل أنْ نصّبه السلطان سعيد بن تيمور (قاضيا للقضاة) وأنعم عليه فأهداه "بيت الفوق"، و"مزرعة سيبا المال" في قرية بوشر فدانت له الدنيا واستقرّت به الحال، وأعقّبت له عقيلته الفاضلة خديجة بنت العلامة سعيد بن ناصر الكندي ثلاثة أولاد هم: حمود وهاشم وصالح؛ وهذا الأخير شاعرنا صالح بن عيسى الطائي الذي حكى عنه أولاده أنه كان دائم التَّغني بهذين البيتين شرفًا ومفاخرةً بأبيه وأجداده:
قصر رسى فوق الثرى وسما إلى
أعلى الطباق فلا يزال رفيعا
///
رتعت به من (آل طي) عصبة
ورثوا المكارم والعلوم جميعا
فكانت بوشر مسقط رأس الشاعر صالح بن عيسى الطائي، فتغنَّى بها في شعره وحمَّلَ مُفْرَدَتَها شحنات شعورية جمّة، تناثرت في صفحات مخطوطه الشعريّ وتداولتها الألسن في صدور المجالس، وبوشر من القرى التي مازالت تعجّ بالعديد من الشواهد التاريخية، والآثار العمرانية؛ ومن يدرس المنتوج الإبداعي وخاصة الشعريّ لعائلة الطائيين من الأخوة وأبناء العمومة والأحفاد وما خلّفته من تراثٍ أدبيّ يجد بوشر حاضرة في كل زاوية من سيرهم الذاتية، ومنتصبة كسارية بحرية في كل مخطوط تاريخي، وعلامة مضيئة في مسيرة أبناء الشيخ القاضي عيسى الطائي (حمود، وهاشم، وصالح من عقيلته خديجة الكندية، وحمد، ورُقية من قرينته ثريا الطائية)، وذرياتهم من بعدهم.. فها هو الشاعر صالح بن عيسى الطائي يبدأ قصيدة له بمقدمة طللية بالوقوف على بوشر لا ذاكرا ما درس من آثارها، وإنما مستذكرا أيام الصِّبا وذكرى الأحبة، يقول فيها:
أبرق لاح من صوب القصوف
غروبا فاستطال به وقوفي
///
ذاكرني الأحبة من قديم
وأرباب المكارم والضيوف
///
وبوشر مرتع الآبا بعصر
فلست ترى شرورا أو كخوف
///
وفي عصر ابن تيمور سعيد
تصان عن المفاسد والدفوف
فلم تكن ذاكرة بوشر خُلوًا من المعالم الآثارية حيث تقلّب الشاعر صالح بن عيسى الطائي في ملاعب صباه هناك؛ بين أعمدة مسجد "النجار"، وهو من معالم القرن الثالث عشر الهجري، وكلما أنهكه التعب برّد حرارة جسده أيام القيظ المحرقة بالسباحة في (لج بو سمان، وكم تنسّم عبق التاريخ العمانيّ الزاهر في حوائط حارة العوراء، وتصعَّد ببصره متأملا في برج ورولة، واستمسك بجذوره المتأصلة في أرض عُمان الطيبة فانطبعت روحه بالتقاليد العُمانية الأصيلة المنبعث أثيرها طوافا بين البيوت والحارات من سبلة فلج الشام. ولطالما استبصر المجد المخبأ في حصن وقلعة "الفتح"، وكثيرا ما استنطق التاريخ الصامت في بيت السيدة ثريا المشهور اليوم بـ"بيت المقحم"، واستقرأ النفوس وحفظ سمات الشخصية العمانية في وجوه مرتادي سوق بوشر القديم، وكثيبرا ما استظل من لهيب الشمس هو ورفاقه الصغار من بني الحسني (محمد بن حامد الحسني وحميد بن ساعد الحسني، وصديق آخر يُلقّب بالأمير) ما بين الضحى والظهيرة تحت (سور السيد برغش) وفي هذا يقول:
ذكرتني عهد الطفولة (بوشرا)
أيامه مرت كأحلام الكرى
وبحي (سيبا) كان مرتع أنسهم
نالت بهم شرفا وعزا أوفرا
فلما بلغ سني التعليم التحق بالمدرسة السعيدية، حتى أتمّ الصف الرابع، وكانت مخرجاتها التعليمية في هذا الزمان مقتدرة على بناء شخصية الطالب وتمكينه من الإلمام بالعلوم الأساسية واحتراف القراءة والكتابة غير أن الوسط العائلي والبيئة العلمية التي كانت تعج بالشعراء والقضاة كانت سندا مكينا في تكوينه الأدبي فضلا عن مصاحبته للعلماء ورجالات الفقه والأدب ممن جاوروه في سكناه واقترنت به روحه واختلطت به نفسه المشرئبة لذوي النفوس العالية والقطوف الدانية؛ فعرف الشيخ القاضي عيسى بن فريش الشامسي خير من ارتاد "سبلة الفوق" في "سيبا بوشر" والتي كانت بمثابة مدرسة علمية وفقهية، وحلقة علم يومية؛ لا تنفض مجالسها، ولا تخبو أشواق معارفها، وتنقطع أحاديث أعلامها، ولا تجف أمواه فقهائها تحت ظل شجرة وارفة الظلال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها بصحبة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري المفتي الأول في عُمان، وسماحة الشيخ حمد بن أحمد الخليلي المفتي الثاني، والقاضي خالد بن مهنا البطاشي، والشيخ سعيد بن حمد الحارثي.
فلمّا انقضت يفوعته ودخل طور، وتصلَّب عود شخصيته، التحق بوظيفة في شركة النفط العمانية، غير أنها لم تجد في نفسه هوى، وخالفت رفيف الأنس بالأدب، وذهبت بصاحبها بعيدا عمّا وطّن عليه نفسه الطوافة حول الشعر وباعدته فراسخ من النوى عن صحبة أولي النهى؛ فهجرها غير آبهٍ بما تدره عليه من أبّهة وعوائد تترى والتحق عام 1974م بوزارة العدل والشؤون الإسلامية آنذاك، ليتولى بعد زمن ليس ببعيد الإشراف على أوقاف العاصمة مسقط حتى وافته المنية عام 1990م.
فلمّا عركته الحياة ألهمته وتمحصت خبرته عرف دروب السفر، وشقّ المسالك في البر والبحر والجو، وتنقل في أقطار عديدة، وعشق الترحال داخل عُمان وخارجها، وكانت رحلاته حاضرة في شعره ممزوجة ببحبوحة العيش ورغده، وهو الذي عرف من قبل الحياة المترفة في كنف الأب الذي جمع بين رياسة القضاء وكياسة الشعراء، وتصدير اللؤلؤ عبر الطريق البحري مع شبه القارة الهندية واستيراد سائر ما يقيم أود المرء في بلدان الخليج من طعوم وملابس ومستلزماتها.
عشق الشيخ الشاعر صالح بن عيسى الطائي حاضرة الهند، وربيبتها بومباي الساحرة وتغنى بأماكنها، وجمال ورقة وجلاوة نسوتها، وبساطة شعبها، ونجاعة أطبائها، وقد دأب على زيارتها سنويا بصحبة أولاده. وقال فيها:
إذا الفجر قد ضاءت بوادر ضوئه
وبالجمعة الغراء طاب لنا الكرى
///
نسيم الصبا إن هبّ فاحت روائح
ولا حر فيها بل روائح عنبرا
///
بها الغيد ربات الحجول وعينها
كعين المها والصدر رمان مثمرا
///
إذا ميست كالغصن حركه الصبا
تميل ولا تخشى رقيبا تسترا
///
فهذا قريضي فيك (بومبي) صغته
حكى رحلتي من أرض (سيبا) بـ(بوشرا)
على الرغم من حبه البادي للحياة، وتحوّله من الكآبة والحزن الذي حزّ سِكّينه لحم قلبه على فراق بعض أولاده الذين اختطفهم الموت صغارا، وفرَّقَ بينه وبين ثلاث من زوجاته هن أمهات أولاده فقضين نحبهن وبقي وحيدا إلا أن روح الدعابة لم تفارق ثغره ليل نهار عندما اجتماعه بالناس حتى إذا دخل خلوته الروحية فاضت مشاعره مناجاة وركع في محراب القرب، وسجد على أعتاب الربّ يذيب روحه في فيوضات الملكوت حتى فاضت روحه وصلوا عليه في مسجد "سيبا" ودفن في مقبرة "صرمة سعيد" سنة 1990 في قرية بوشر.