مرتضى بن حسن بن علي
موضوع التنمية الشاملة المستدامة، هو موضوع مهم وواسع بقدر ما هو شائك وأصبح هاجسا لعدد كبير من الدول والمجتمعات بشكل عام، فبعض الدول تمكنت من تحقيق نجاح باهر في خططها التنموية رغم عدم امتلاكها للموارد الطبيعية، في الوقت الذي لم تنجح دول عديدة أخرى مع امتلاكها لموارد طبيعية متعددة. فما أسباب ذلك الإخفاق؟
تشير تجارب الدول التي نجحت نجاحا باهرًا في تحقيق خططها التنموية وتحقيق رؤاها المستقبلية إلى أنها تمكنت بداية من إيجاد طبقة عالية الكفاءة والمهارة من المستشارين والخبراء والفنيين والأخصائيين المحليين، عن طريق إرسالهم إلى أرقى الجامعات العالمية وتدريبهم على أيدي أحسن الخبراء وأفضل المدربين، وفي أنجح المؤسسات، ونجحت في إيجاد جهاز إداري للدولة منخفض التكلفة نسبياً وذي كفاءة عالية وبيروقراطية شبه مُنعدمة، كما وضعت سياسات لمراقبة الأداء عبر أنظمة الحوكمة والمساءلة والمراقبة والمحاسبة، والمساهمة بإيجاد قطاع خاص قوي وإنتاجي ومتنامٍ والتحالف معه، وأتبعت كل الطرق والوسائل والتشريعات لجذب الاستثمارات الأجنبية وإيجاد بيئة صديقة لجذبها، ومن ضمنها قوانين عمل صديقة ومرنة، وإيجاد قوة عمل عالية التدريب والإنتاجية، وأخلاقيات عمل عالية، وإعادة تدريبها باستمرار، كما وضعت أفضل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتدريبية، لإضعاف سطوة العادات والتقاليد الاجتماعية المُعرقلة للتنمية وزرع عادات وقيم جديدة محلها تتناسب مع الأهداف المرجوة، وأدركت أنَّ نجاحها مرتبط بقدرتها على التعرف والتعامل مع مكامن الضعف في هياكلها، وأن النجاح لن يتحقق من دون تغيير عوالمها السياسية والاجتماعية والتعليمية، وعلى أهمية البعد القطاعي في التنمية الشاملة عن طريق تطوير كافة القطاعات معًا من دون تقديم قطاع على قطاع آخر.
كما إنها اتبعت أسلوب المشاركة القوية من أصحاب المصلحة في عملية صنع القرار، وإيجاد تنسيق كامل بين كل الوزارات والهيئات للمساهمة في عملية صنع السياسات وإيجاد أرضية مشتركة لحل المشكلات العامة من خلال إدارة بنّاءة للاختلاف وصممت سياسات لإيجاد تنسيق مستمر مع مجموعة من أصحاب المصلحة لوضع السياسات المتعددة، وربطت الجهات المسؤولة رأسيًا وأفقيًا للتعاون والتنسيق، إضافة إلى إشراك الجهات الفاعلة المحلية في التنفيذ مثل المستخدمين النهائيين وموظفي الخطوط الأمامية ومجموعة من وكالات الخدمة المحلية، وأدركت ضرورة إيجاد تنسيق وأرضية مشتركة كافية للمضي قدمًا إلى الأمام، وتجنب حدوث مراكز للقوى المؤدية إلى الصراعات المستمرة حول شرعية السياسة والمهمة التنظيمية؛ إذ إن تصميم وتنفيذ السياسة عملية متكاملة ضرورية وليست مجرد سلسلة من المراحل المنفصلة. كما تأكدت من ضرورة توفر الكفاءات والمهارات والقدرات المطلوبة لدى صانعي السياسات من أجل مُعالجة العيوب والنجاح في مثل هذا المسعى.
تلك الدول طبقت أيضًا، أنظمة يتحمل المسؤولون من خلالها نتائج أعمالهم ومبادراتهم، ومغادرة مناصبهم في حالة الفشل وإجراء مساءلتهم، سواء خلال فترة وجودهم على رأس وظائفهم أو عند مغادرتهم لها، حتى لا ينجذبون بسهولة لتحقيق نتائج قصيرة الأجل وذات دافعية إعلامية أو شخصية أو النظر إلى المشكلة على أنها «مشكلة شخص آخر أو جهة أخرى» أو ترحيلها إلى جيل آخر.
أما الدول التي لم تنجح في تحقيق مشاريعها التنموية ورؤاها المستقبلية، فهي الدول التي لم تقم بمعظم ذلك، وعلى سبيل المثال لم تقم بإيجاد جهاز إداري كفؤ للدولة أو تكوين طبقة من الخبراء الوطنيين ذوي الكفاءة العالية أو الاستعانة بالمستشارين والخبراء الدوليين، ليساعدوها على إيجاد حلول لمشاكلها أو التعلم من تجارب الدول الأخرى، رغم توفر المعلومات المتراكمة عن مفهوم الدولة التنموية. ضعف الإدارة المسؤولة في تلك الدول لم يساعدها في تحقيق برامجها التنموية. ويتجسد هذا الضعف أول ما يتجسد في تحديد مراحل وتتابع خطوات الإصلاح الاقتصادي، وعدم تغيير الأعراف والتقاليد والعادات المتناقضة مع السلوك التنموي للإدارة الاقتصادية العقلانية.
إن التقدم والفشل يرتبطان بنجاح أو فشل السياسات الاقتصادية المطبقة، وتغييب فرض القانون على الجميع، وعدم التدخل من خلال الأدوات التخطيطية الرشيدة لمُعالجة فشل الأسواق، ومحاربة الفساد، وضمان توزيع دخل مقبول اجتماعيا، وتوفير المؤسسات الملائمة للإدارة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
ويمكن تحديد 4 مساهمين رئيسيين في الإخفاق لتطبيق سياسات التنمية: عدم وجود أنظمة مستقلة للحوكمة أو المساءلة أو المحاسبة أو المراقبة، وغياب لمؤشرات للقياس وضعف التنسيق بين الوزارات المختلفة من جهة وبينها والجهات المختلفة الأخرى، إضافة إلى ضعف المُراقبة المستقلة أثناء مرحلة التنفيذ، والإفراط في «التفاؤل الساذج» من دون ارتكازه على أسس موضوعية، بقدر ارتكازه على التمنيات، وهو موضوع يستحق المراجعة الجذرية لتجنب الإخفاق.
وهناك عوامل مُتفاعلة تساهم في مثل هذا التفاؤل المفرط مثل: عدم الإلمام بالتحديات الموجودة أو تشخيصها وعدم كفاية المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب وعدم الأخذ في الاعتبار التكاليف الحقيقة النهائية سواء لضعف في التقدير أو عدم مراقبة التنفيذ، إضافة إلى المصالح الشخصية، والرغبة الغريزية لمقاومة التغيير والبيروقراطية المهلكة وتصارع الإرادات المتناقضة وانعدام ثقافة الاعتراف بالخطأ لدى المسؤولين وعدم تطبيق مبدأ المسؤولية التضامنية والمسؤولية الفردية في الحكومة، بحيث يكون الوزير تحت مساءلة مستمرة، فإن فشل يقدم استقالته أو تتم إقالته. وهذه المشكلة تمثل تحديا للحكومات في عدد كبير من الدول النامية. لا يزال تصميم السياسة أو التنفيذ غير الملائمين سائدا إلى حد بعيد وما زال التنفيذ يتم في صوامع إدارية ضيقة.
عند إعداد أية سياسات أو خطط وتحديد الأهداف، فلابُد أن تكون الجهة المسؤولة أكثر يقظة للجوانب العملية للتنفيذ من خلال التدقيق في جدوى بعض المشاريع ومنذ البداية يمكن ألا تكون بعض المشاريع أو السياسات مناسبة لعدة أسباب: منها رغبة المسؤول بالحصول على نوع من الشعبية أو فهم ضعيف للمشكلة؛ وعدم كفاية المعرفة بسياق التنفيذ، وأهداف غير واضحة وحتى متناقضة؛ وأدلة رديئة الجودة، ورغبة المسؤول بوضع أهداف وهو عارف إنه غير مسؤول عن تطبيق العملية، أو وجود مصالح شخصية مستترة.
ولا يتم ذكر المخاطر أو تحديات التنفيذ والخطوات التي يجب اتخاذها. وفي الحقيقة إن هذه الخطوات يجب أن تسبق مرحلة إعداد الرؤية بفترة زمنية معقولة للتأكد من نجاحها وإعطائها أولوية حكومية عليا وإجراء تغييرات عليها إذا اقتضت الضرورة.
ومن الضروري تشكيل «مراكز دعم التنفيذ»، وهي كيانات تعمل جنبًا إلى جنب مع الحكومة وغالباً بتوجيه منها لدعم التنفيذ الفعَّال. هذه المراكز تلعب دورًا حاسمًا، ليس فقط في تنفيذ البرامج، ولكن أيضًا في تطوير القدرة اللازمة لتغيير الأنظمة.
في كتابهما: «لماذا تفشل الأمم»، فإن الباحثين في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا: دارون أسيموجلو وجيمس روبنسون، يرفضان تقسيم الأمم إلى غنية وفقيرة وفقًا لعوامل الجغرافيا والمناخ والثروات الطبيعية، وإنما يُعيدان ذلك إلى ضعف المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي أنتجتها تلك الأمم بنفسها. الباحثان لا يربطان أسباب ذلك للأسباب الجغرافية أو الاختلاف في العرق أو الهوية أو الدين، بل لأسباب تتعلق بقوة المؤسسات وكفاءتها وتطبيق مبادئ الحوكمة والشفافية والمتابعة والمساءلة والمحاسبة.
السياسات والاستراتيجيات لا تنجح أو تفشل لذاتها؛ بل بسبب الأخطاء والشوائب التي تحيط بتطبيقها وتنفيذها. الأهداف والأدوات المستخدمة تحدد النتائج وليست النوايا، السياسة بحد ذاتها لا يمكن أن تكون أكثر أهمية من كيفية تنفيذ السياسة. مع الأسف هذا الأسلوب ما زال متبعاً لدى سلطات صنع السياسة في البلدان التي لم تحقق نجاحًا كبيرا في تنفيذ خططها التنموية، بسبب الفجوات العديدة في تنفيذ السياسات. هناك دائماً قوى تقاوم التغيير وإيجاد حلول لها تختلف في الزمان والمكان وفقاً للظروف المحلية. ولابُد للحكومات أن تدرك ذلك وتقوم على المزيد من العمل لمحاولة ضمان تحويل النوايا إلى نتائج، بدلاً من مجرد ترك السياسات تنجرف إلى الفشل الكامل أو حتى الجزئي. على الحكومات الآن الاهتمام بالطرق التي يمكن من خلالها تعزيز ودعم عملية السياسة - وخاصة خلال مرحلة التنفيذ.
مختصٌ في قضايا التنمية وتحدياتها