روبل القيصر

 

ناجي بن جمعة البلوشي

في يوم الأربعاء الماضي قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تكون مدفوعات إمدادات الطاقة من النفط والغاز المصدرة إلى الدول "غير الصديقة" بالروبل الروسي، وذلك بعدما طلب من حكومته إعداد قائمة خاصة بهذه الدول، بعد التدخل العسكري في أوكرانيا وبعد أن فرضت الدول الغربية والمتحالفة معها الكثير من العقوبات على بلاده.

ولإتمام هذا القرار أمر حكومته وجهات الاختصاص التابعة لها باتخاذ كل ما هو متمم لهذا القرار محددا زمنه بأسبوع؛ ليكون هذا التحويل للمدفوعات خروجا صريحا عما هو متفق عليه في الاتفاقيات الرسمية بين بلاده والبلاد غير الصديقة- حسب وصفه- والملتزمة بشروط الدفع وبعدة عملات هي اليورو الأوروبي والدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني، لكنها اليوم تجد نفسها أمام واقع مختلف لا يحتمل إلا العيش فيه أو التفاوض من أجل الخروج بحلول مناسبة لكل الأطراف.

فعملة الدفع الجديدة "الروبل الروسي" اعتمدها المصدر لسلعة إذا توقفت إمداداتها لتلك الدول، فإنه يعني لها مضاعفة الأزمات الاقتصادية والخسائر المادية والسخط الشعبي وربما التفكك الأوروبي ونهاية التحالفات والنأي بالأنفس عن كل ما يعني الهاوية للدول.

هناك دول تنتمي للاتحاد الأوروبي لكن ليس بمقدورها مواجهة كل مشاكل الاقتصاد وليس لها طاقة على كل تلك المشاكل والطرق المظلمة، بعد أن أرهقتها أزمة جائحة كورونا وأزمة ارتفاع الأسعار الجديدة في الطاقة وتوافد اللاجئين إليها، مع وجود تظاهرات شعبية تخرج إلى الشوارع تطالب بخفض الأسعار التي أرهقت جيوب المواطنين، وبذلك هي غير قادرة على التكييف مع الوضع الآن. كما إن هناك دولًا قد صرفت الكثير من أموالها وأموال مواطنيها على مساعدة اقتصادها واقتصادات دول أرهقتها الجائحة، وهي مجددا على مقربة من دفع كل تبعات الأزمة الجديدة عنها وعن كل دول الاتحاد الأوروبي غير القادرة على مجاراة  الواقع الجديد؛ بل ربما الآن هي غير مستعدة تمامًا للزج بكل اقتصادها وأمواله في سبيل مساعدة تلك الدول التي لم يكن لها فيها شأن سوى لمجرد وجودها معها في الاتحاد الأوروبي.

إنَّ فرض الدفع فقط بروبل القيصر على تلك الدول المستوردة للطاقة وسلع أخرى قد لا يكون الغاية منه كما هو متوقع في حسبان بعض المحللين، لرفع قيمة ومساعدة العملة الروسية لما وصلت إليه من تهاوٍ بعد العقوبات المفروضة؛ بل ربما نظن أنه قد يتعدى ذلك إلى أن يصل في طلب القيصر للذهب الأوروبي المساوي للروبل، خاصة بعد أن ينفذ السوق من الروبل مُقابل العملات الأخرى، فالآن العملية تبدو على أنها طريق لإلغاء كل العقوبات عن البنوك الروسية، ومن ثم ليتحرك الروبل إلى كل العالم دون قيود، وإذا لم تفعل تلك الدول هذا الواقع وترفع القيود والعقوبات عن تلك البنوك، فإنه سيطلب منها قريبًا الدفع بالذهب الموازي لقيمة الروبل، وذلك قيمة لكل السلع، وهذا سيتم بعد مرور القليل من الزمن وبعد أن يصل حينها الروبل الروسي إلى مستوى قياسي مقابل العملات الأخرى بسبب الطلب مقابل المعروض فالدول غير الصديقة لروسيا أمام خيارين قاسيين.

أما إذا قررت تلك الدول مع بداية هذا القرار رفضها للاستيراد والدفع بروبل القيصر، فإنها بذلك قررت مواجهة حتمية أمام شعوبها التي ستنتفض أمام الغلاء الجنوني لكل شيء، وأمام مشاكل كل الباحثين عن عمل والذين ستُسرحهم الشركات العاملة في دولهم.

ولأن حروب الدول العظمى طويلة ومختلفة الطرق والمسالك، فإن الحرب التي بدأت عسكرية وسيبرانية ثم أُطرت اقتصاديًا، فإنها اليوم تتحول إلى مالية، ثم ستتحول إلى حرب نقدية وعملات؛ فالدولار الأمريكي لن يكون مؤثرًا كما هو اليوم، لأسباب قد تصنعها الأيام المقبلة، وبعد أن يتشكل النظام العالمي الجديد؛ فالقيصر لا يقوم بشيء جديد سوى أنه يُعيد أمجاد الدولة التي في كل خطاباته كان يمجدها ويذكرها بالتاريخ الخالد، لكن بقاءه على ذلك مرتبط يتأييد الشعب وهو الثمن لذلك، وقد كان واضحًا في الخطاب الذي صدر قبل يومين على لسان زعيم أقوى دولة بالعالم، فإذا بقي القيصر وأيده شعبه، فإنَّ هناك هيمنة لدول وتحالفات ستنتهي.