د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
أؤمن بأنَّ المسلم ليس بحاجة إلى استفتاء علماء الدين لمعرفة الحلال والحرام، فضميره وعقله يرشدانه إليهما، بعد أن فصّل القرآن المحرمات وقيدها وأطلق المباحات ووسعها، فكل ما في الأرض مُباح ومسخر لخدمة الإنسان وإسعاده إلا ما جاء فيه نص باستثنائه "هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا".
كان هذا مقدمة لبيان كم جنت الفتاوى الدينية على شباب المسلمين وأوردتهم مواطن الهلاك تحت اسم الجهاد والاستشهاد! وكم حالت الفتاوى دون نهضة المسلمين وتنمية مجتمعاتهم! وكم تسببت في تفرقة المسلمين وإفساد ذات بينهم! وكم زرعت الكراهية في نفوسهم ونفّرتهم من الاستفادة من حضارة المتقدمين: تقنيات علمية ونظم متطورة ومناهج معرفية وبرامج تنموية وتشريعات حقوقية بحجة عدم التشبه بالكفار !
بيدي كتاب للباحث السعودي حسن ﻓﺮﺣﺎﻥ المالكي بعنوان "جذور داعش" يعرض فيه نماذج من "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" المكونة من كبار علماء المملكة العربية السعودية، ونماذج من فتاوى المفتي العام الأسبق للمملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والمفتي السابق الشيخ ابن باز رحمهما الله وغيرهما، وهي كلها منشورة وموثقة.
ويهدف المؤلف من عرض هذه الفتاوى، لبيان مدى أثر هذه الفتاوى في زرع الكراهية المذهبية والدينية بين المكونات المجتمعية للدولة السعودية، ونشر تهم التكفير على مستوى العالم الإسلامي. ويؤكد الباحث من واقع هذه الفتاوى التكفيرية أنها هي أصل "الغلو" في تكفير المسلمين مجتمعات وحكومات بحجة أنها تحكم بـ"التشريعات الوضعية"؛ أي بغير ما أنزل الله، ومن ثم على سكانها الهجرة إلى السعودية التي تحكم بالإسلام.
أتصور أنَّ اللجنة الدائمة سبقت سيد قطب والقاعدة وداعش والتنظيمات المتطرفة في تكفير المسلمين؛ إذ لا حدَّ لغلو اللجنة في فتاواها، فإنها أفتت بتحريم التجنس بجنسية الدول الأخرى، وفتح المدارس الأجنبية، وتحريم الاحتفال بالمناسبات الإسلامية كالإسراء والمعراج والمولد النبوي والهجرة واليوم الوطني وعيد الأم. أما تحية العلم فهي شركٌ، وحتى الصور في الكتب المدرسية محرمة ولو لغرض تعليمي، كذلك لعب الورق، ومشاهدة المباريات الرياضية كونها تكشف الفخذ وهو عورة. وتشدد اللجنة على أنَّه لا يجوز تأجير العقارات للمدارس الأجنبية أو البنوك، وكذلك المحلات للحلاقة أو التصوير أو بيع الدخان.
وإن تعجب فاعجب من فتوى اللجنة المطولة بتحريم مشاهدة المسلسل التليفزيوني "طاش ما طاش"؛ لأنه يتضمن السخرية بأهل الخير، ووضع لحى مصطنعة، وتقليد لهجات البلدان!
أما على مستوى الفتاوى الفردية، فقد ذهب المفتي العام الأسبق الشيخ ابن إبراهيم إلى أن أكثر المسلمين كُفّار، هم مسلمون اسمًا كُفّار حقيقة، وكذلك البلاد التي يُحكم فيها بالقانون ليست بلاد إسلام! وكان يرى المذاهب الأخرى مبتدعة وضالة.
أما الشيخ جبرين فقد أفتى بتحريم إهداء الزهور؛ لأنه تقليد للكفار، وحرم قَص الشريط عند افتتاح المشاريع كونه بدعة، وحرم التحية العسكرية. وذهب الشيخ ابن عثيمين إلى تحريم تعلم اللغة الإنجليزية لأنه يُورث محبة لغة الكفار ومحبتهم، وذلك مخالف لعقيدة "الولاء والبراء"، والأب الذي يسمح لابنه بتعلم الإنجليزية "آثم سوف يُحاسب على ذلك يوم القيامة".
على أن أخطر فتوى تكفيرية روجتها اللجنة الدائمة كانت "من لم يكفِّر الكافر فهو كافر"، وبها تمَّ تكفير كل علماء المسلمين المخالفين لها.
الدولة السعودية اليوم..
السعودية دول ومراحل، والسعودية اليوم غيرها بالأمس، تلك الفتاوى التكفيرية مثلت مرحلة مضت وانقضت لها ما لها وعليها ما عليها، وتغيرت السعودية تغيرًا شاملًا في كافة الميادين الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ونحن اليوم في عهدة الدولة السعودية الرابعة، دولة منفتحة على مكوناتها المجتمعية المذهبية والإثنية والمناطقية، تتبنى القيم الحضارية، ولا مكان فيها اليوم لفتاوى الكراهية والتكفير والتهميش؛ سواء لمكون مجتمعي داخلي أو للمجتمعات الأخرى كما جاء على لسان ولي عهدها.
ومع أن السعودية فيما مضى لم تكن تتدخل للتأثير على المؤسسة الدينية مراعاة لاستقلاليتها، إلا أن تلك الفتاوى لم يكن لها أي اعتبار في سياستها الخارجية بالدول الأخرى.
** كاتب قطري