جيوب المواطنين أم جيوب الشركات؟

 

د. عبدالله باحجاج

كيف تُفكر الجهات الحكومية المعنية بملف الغذاء في البلاد لمُواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية؟ فهناك أزمة عالمية، عابرة لكل الحدود السياسية، وهي ليست جديدة، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا قد رفعت مستوياتها إلى الخطوط الحمر، فعندما يتوقف تصدير 35 مليون طن من القمح الروسي، وكذلك 18 مليون من أوكرانيا، بسبب حرب مدمرة، لا يعرف أحد متى ستنتهي، وترتفع معها أسعار الشحن، فهذا يعني أنَّ ملف إدارة هذه الأزمة على المستوى الوطني ينبغي أن يكون تحت المجهر، ومن قبل المؤسسات الرقابية المستقلة كمجلس الشورى؛ فلِماذا لم يتم استدعاء وزيري المالية والاقتصاد والمشرفين على أمننا الغذائي في جلسة عاجلة لمُناقشة خططهم في كيفية إدارة هذه الأزمة؟!

تابعتُ مؤخرًا عقد اجتماع مشترك بين جهات الاختصاص، ووجدته أقرب لتسويقه للرأي العام لدواعي الاطمئنان فقط في قضية آنية، قابلة للتصعيد المُقلق، وشهر رمضان المبارك على الأبواب، وحتى الآن لا تزال إدارتنا لهذه الأزمة ينقصها العمق والاعتداد المستحق بالبُعد الاجتماعي، ويتم التعامل معها من منظور قصير المدى، وجزئيًا وليس شاملًا، ألمس ذلك في مُقترح تقديم دعم مالي لمدة ستة أشهر للقمح والطحين العجيني والأعلاف الحيوانية فقط.

وهذا لا يرتقي لمستويات الأزمة الغذائية الشاملة، فلماذا القمح والطحين رغم أن الارتفاع المتصاعد يشمل كل المواد الغذائية الأساسية؟ وتحذر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، من ارتفاع مخيف للأسعار قد يصل إلى 20%، وحتى اختيار القمح والطحين للدعم، يفتقر للمعرفة الاجتماعية بالأولويات الغذائية، فما هو أكثر أهمية للعمانيين الأرز أم القمح والطحين؟! كما إن فكرة الدعم تتعارض كذلك مع فكر رفع الدعم ومبرراته، وقد برز ذلك في الوقود الذي تمَّ رفعه بحجة أن المستفيد منه المحتاج وغير المحتاج، والعماني والوافد معًا، وهنا التعارض! فكيف يكون دعم القمح والطحين مشروعًا الآن، والوقود ممنوعًا حتى الآن؟ فدعم الغذاء سيستفيد منه كذلك أكثر من مليون وسبعمائة ألف وافد، كما إن هذا الدعم سيذهب لجيوب الشركات وليس لجيوب المواطنين، ولن يساهم في تعدد خياراتهم.

الحل أراه في منح علاوة غلاء معيشة لكل مُتقاعد، وتعزيز علاوة غلاء المعيشة للموظفين بما يتناسب والزيادة الجديدة في أسعار المواد الغذائية الأساسية؛ وذلك على اعتبار أنَّ هناك علاوة قد مُنحت عام 2011، وتلح الضرورة الآن لرفع سقفها لضمانة لقمة العيش المهددة الآن بارتفاع أسعارها. وسحب علاوة المعيشة بعد تقاعد الموظف خطوة تنقصها الاعتداد بالبعد الاجتماعي، وتعكس خلفية عدم الفهم الحقيقي بالواقع الاجتماعي.

وعلاوة غلاء المعيشة، هي الخطوة المستحقة ظرفيًا، ومن خلالها ستتحقق للحكومة مجموعة أهداف وطنية وثقافية عاجلة وحتمية الآن، سنوضحها في مقال قريب جدًا، وهناك إمكانية لتحقيقها الآن بعد ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات تذكرنا بعودة العصر الذهبي للنفط رغم أنها عودة مشوبة بالحذر، لكن لا يمكن تجاهل ارتفاع الأسعار، فحصة البعد الاجتماعي لها ضرورة الآن بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإلّا ستصبح هذه الثروات المتجددة، وكأنها تتفرج على الأزمات الظرفية للمجتمع، مما يعمق من حالة الاحتقان الاجتماعي التي ظهرت بفعل السياسات المالية منذ سنتين وحتى الآن، أتفق هنا مع دعم الأعلاف الحيوانية التي ارتفعت بسبب ارتفاع أسعار المدخلات والشحن، فمربو الحيوانات محدودو الدخل، والكثير منهم دون دخل ثابت، سيعانون كثيرا من ارتفاع أسعار الأعلاف، وهنا يكون الدعم في محله.

وهناك من يرى أن حل ارتفاع أسعار الغذاء، يكمن في تحرير الأسعار، وجعلها للمنافسة الشريفة؛ حيث يرى مثلا أن منافسة 6 شركات للمطاحن في بلاده، كفيلة بجعل الأسعار مُغرية لجذب الزبون، ويستشهد بتجربة إحدى الشركات في صحار التي أحدثت فارقاً في السعر يصل إلى ريال عماني واحد، ومقترح التحرير ينبغي أن يدرس كخيار آخر، دراسة موضوعية لتوضيح مدى فائدة المجتمع منها. أما الدعم المالي في صيغة المقترح الراهن، فلن تستفيد منه إلا الشركات فقط، وهذه الأموال الأولى بها أن تدخل جيوب المواطنين التي استنزفتها الضرائب والرسوم ورفع الدعم التقليدي للمجتمع، مما يجعل المواطن متعثرًا في الوفاء باستحقاقاته الحياتية، فكيف بعد موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية؟

وختامً.. إنَّ أزمة الغذاء ليست سهلة ولا مؤقتة حتى تكون أداتنا لها من الآن متواضعة وقاصرة عن بعدها الشمولي والاجتماعي.