هل يمضي النظام العالمي نحو "أقطاب متعددة"؟

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي

 

التوتر والخوف من المجهول يسيطران على تفكير النَّاس في هذا العالم المترامي الأطراف من الشرق إلى الغرب مجددا؛ بسبب هذه الحرب المدمرة التي اجتاحت مختلف المدن الأوكرانية وقد تتوسع شرارتها إلى الدول المجاورة والحليفة لأمريكا؛ والتي تقودها روسيا ضد جارتها الصغيرة أوكرانيا، من خلال تحريك وتجيش مئات الآلاف من الجنود وأرتال الدبابات وأسراب الطائرات المقاتلة، والمدرعات التي تمتد طوابيرها على طول الطرق لمسافة عشرات الأميال استعدادا لاقتحام العاصمة الصامدة كييف التي أظهرت مقاومة، أبهرت الدول الغربية التي توقعت سقوطها خلال الأيام الأولى للحرب.

ومن جانب آخر صُدمت روسيا والرئيس فلاديمير بوتين الذي يتعرض لمحاولات عزلة عالمية، وقد أدانت 141 دولة من بين 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة الغزو الروسي على أوكرانيا، بينما كانت الصين حليف روسيا التاريخي، قد امتنعت عن التصويت على قرار الإدانة الأممية ومعها ثلاث دول عربية هي (الجزائر والسودان والعراق)، إضافة إلى 31 دولة أخرى من مُختلف قارات العالم وقفت على الحياد. وقد اتضح جليًا بما لا يدع مجالاً للشك، أن مجلس الأمن الدولي الذي تمَّ تأسيسه على "الفيتو" المطلق لمصلحة الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس بعد الحرب العالمية الثانية وقائم في الأساس على مكافأة المنتصرين في تلك الحرب؛ لم يعد صالحًا لهذه المرحلة، فهو أقرب لقانون الغاب منه إلى القانون الإنساني الذي يحترم سيادة الدول والشعوب المناضلة من أجل الحرية، وبالفعل حان الوقت للتخلص من هذا المجلس نهائيا واعتماد أصوات الدول الأعضاء فقط في الجمعية العامة. صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية انتقدت قيام روسيا بإبطال قرار مجلس الأمن الذي يُجرِّم اجتياحها لدولة عضو في المنظمة الدولية، وتناست ما يقوم به المندوب الأمريكي طوال 7 عقود بالوقوف الأعمى واستخدام الفيتو ضد كل القرارات الدولية المساندة لقضية العرب والمسلمين الأولى فلسطين.   

إنَّ عدم اصطفاف الصين الشعبية مع روسيا في هذه الحرب وخوفها من العقوبات الغربية قد جعلها تحافظ على مصالحها الاقتصادية باعتبارها الاقتصاد الثاني في العالم، فهذا الموقف يعني استمرار سيطرة القطب الواحد على العالم، والمتمثل في الهيمنة الأمريكية، التي نجحت بشكل منقطع النظير في تجييش العالم ضد العدوان الروسي الذي كان يطمح من خلاله قادة الكرملين (الرئاسة الروسية) إلى ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب، يكون الاتحاد الروسي والصين الشعبية أحد أقطابه، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تقدمت دول كانت محايدة طوال الحرب الباردة وبعيدة عن الاستقطاب العالمي، بطلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" لأول مرة خلال هذه الأيام وهي فنلندا والسويد، اللتان ترتبطان بحدود برية بالنسبة للأولى وبحرية بالنسبة للثانية مع روسيا.

إن ما يشغل العالم أجمع الآن هو امتداد المعارك إلى المدن المكتظة بالسكان ومحاولة روسيا السيطرة على محطات الطاقة النووية الأوكرانية الأربع التي بُنيت في العهد السوفيتي وتشكل في الوقت الحالي العمود الفقري لتزويد السكان بالطاقة الكهربائية في هذا البلد الأوروبي شديد البرودة، خاصة في مثل هذه الأيام من السنة. فقد استولت القوات الروسية على محطتين من المحطات الأربعة هما تشيرنوبل وزايوريجيا، وقد اشتعلت النيران في بعض المرافق الخاصة بالمحطة النووية الأخيرة التي تقع شرق أوكرانيا وسط قلق عالمي من انتشار الإشعاعات النووية القاتلة المدمرة للقارة الأوروبية ثم إلى العالم قاطبة، وذلك بسبب التهور الروسي غير المحسوب وسعيها للسيطرة على جميع المحطات النووية الأوكرانية، التي يمكن لها في المستقبل تمكين هذا البلد من صنع قنابل نووية لمواجهة ترسانة جارتها التي تملك أكبر مخزون من القنابل والصواريخ التي تطلقها إلى أهدافها على مستوى العالم متفوقة بذلك على خصمها اللدود أمريكا.

وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت خسائر الجيش الروسي- الذي تعوّد عبر تاريخه على حرق المدن وتدميرها على رؤوس سكانها المدنيين في أفغانستان في عقد الثمانينات من القرن الماضي ثم تدمير المدن الشيشانية في حقبة التسعينيات من العقد الماضي وحرق وإبادة المعارضة السورية- كبيرة وباهظة الثمن؛ إذ تُقدَّر بآلاف القتلى حسب العديد من المصادر.

لقد وصلتني بعض الردود من الزملاء والأصدقاء الذين يحرصون على قراءة مقالي الأسبوعي والذي كان الأسبوع الماضي بعنوان: "هل العالم على مقربة من حرب عالمية ثانية؟!"؛ حيث تضمنت هذه الملاحظات عتابًا حول ما حمله المقال من أفكار- من وجهة نظرهم- تساند أوكرانيا وتروج للسلام والديمقراطية الأمريكية التي هي عرّابة الحروب في العالم، خاصة في الدول العربية؛ إذ إن أمريكا احتلت ودمرت بالكامل 4 دول إسلامية من بينها العراق وأفغانستان، وذلك حسب ما ذكرني به القراء، كما إنَّ هناك من يشير إلى الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وموقفه من العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة ومساندته المطلقة للصهاينة في هذا الصراع؛ باعتباره أنه من أصول يهودية، هذا فضلاً عن مشاركة الجيش الأوكراني في الحرب ضد العراق إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الغرب والدول العربية عام 2003. واستطيع القول هنا للجميع؛ إن رأي الكاتب يجب أن يكون صادقًا وموضوعيًا ومتوازنًا وعدم الانجرار للعاطفة والبعد عن الحقيقة التي تكون دائمًا الضحية الأولى في الحروب عبر التاريخ؛ لكون معظم البشر يقفون مع أطراف الصراع لأسباب دينية أو قومية أو مصالح اقتصادية بصرف النظر عن معايير العدل وقول الحق. 

وفي الختام.. المشاهدون يتابعون على مدار الساعة التغطية الإعلامية لهذه الحرب التي تشكل هاجس شعوب العالم قاطبة؛ إذ أثبتت القنوات العربية الإخبارية مهنية عالية في تعاملها وتغطيتها لهذه الأزمة؛ خاصة قناة الجزيرة الناطقة باللغة بالعربية؛ فقد جندت فرقًا إعلامية متكاملة وكوكبة من المراسلين المحترفين في العديد من المدن التي تحولت إلى مسرح للمعارك عبر كاميرات الجزيرة التي تنقل هذه الأحداث مباشرة للعالم. أما القنوات الدولية فقد كشفت عن عنصريتها خاصة شبكات التلفزة الأوروبية والأمريكية التي وصفت اللاجئين الأوكرانيين  بالمتحضرين لكونهم من الجنس الأبيض وأصحاب العيون الزرق؛ بينما تم نعت الأفغان والعرب والأفارقة الذين شردتهم الحروب الغربية خلال العقود الماضية بـ"المتخلفين".

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري