ليس دفاعًا عن بوتين!

 

د. صالح الفهدي

تأسس حلف شمال الأطلسي "ناتو" عام 1949 لمجابهة الاتحاد السوفيتي ومحاصرته؛ الأمر الذي يعني أنَّ عقيدة الحلف ولسبعين عاماً لم تتغيَّر حتى مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، فظل يتمدَّدُ شرقًا نحو روسيا التي ما فتأت تصرِّحُ بمخاوفها؛ بل وتبدي معارضتها للغرب من هذا التمدد الذي يمسُّ بأمنها الإستراتيجي، بيدَ أن سعي "الناتو" المتواصل لم يُلقِ بالًا لمخاوف وتحذيرات روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، ويدلُّ على ذلك تصريح ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، في السابع من فبراير 2022- أي قبل الغزو الروسي- أن "الحلف يسعى إلى تثبيت وجود عسكري طويل المدى في أوروبا الشرقية لتعزيز قوته الردعية".

يفرضُ منطق العلاقات الدولية تقدير الهواجس الأمنية لروسيا، خاصَّة وأن النوايا قد باتت واضحة وهي كبح جماح قوة روسيا والصين من أن يكونا منافسَين للولايات المتحدة الأمريكية التي لا تقنع حججها عاقلاً أبداً فتاريخها معروف في قمعِ أيَّة قوة عظمى منافسة تطمح إلى منافستها على قيادة العالم، وتبوأ مكانة اقتصادية أو عسكرية مقاربة.

لم يُرد بوتين من أوكرانيا سوى أن تكون محايدة؛ أي لا ترضخ لسياسةٍ دون أخرى، على أن النظام في أوكرانيا قد أغرته الوعود الغربية متجاهلاً أن روسيا هي الجارة الأزلية بحكم الجغرافيا وهي المتجذرة عرقياً في الأرض، وأن الوصول معها لصيغة توافقية يضمن للدولتين عيشاً مسالماً.

ولو أن هذا التفهم قد تم لما استعادت روسيا فلاديمير بوتين شبه جزيرة القِرم عام 2014، ملقياً بالتنديد والشجب والعقوبات الغربية عرض الحائط، فما هو إلا وقت يسير حتى عادت المصالح الروسية- الأوروبية إلى طبيعتها بإمداد النفط والغاز لأوروبا، وأنشأ خط أنابيت الغاز (نورد ستريم 2) لإمداد ألمانيا بالغاز، وغير ذلك من المصالح المشتركة.

ويبدو أن دول أوروبا لا تتعلَّم الدروس التي تتلقاها من تبعيتها لسياسات أمريكا وكان أقساها إنسحاب أمريكا المذل من أفغانستان بعد عشرين عاماً عجافاً تاركة ورائها دول حلف شمال الأطلسي مبهوتةً، حائرةً، متذمرةً لما فعلته أمريكا دون مراعاةٍ لرأيها مما جعلها تفكر في إنشاء جيش أوروبي مستقل، وها هي اليوم تستجيبُ لذات السياسات الأمريكية التي تحشرُ أُوكرانيا في حربٍ مع روسيا في حين تواجه أوروبا خسارات باهضة إزاء فرضها للعقوبات على روسيا..!

لقد ظهر النفاق الغربي في حرب روسيا- أوكرانيا فيما يتعلَّق بادعاءاته بانتهاك القانون الدولي، فهل احترمت أمريكا أو أوروبا القانون الدولي في غزوها للدول، وفي تغييرها للأنظمة التي تطلق عليها ما تشاء من الصفات؟ هل تحترم الدول الغربية سيادة الدول حين غزت العراق، وسوريا، وأنشأت فيها بؤرا للإرهاب، هل فكرت بالشعب الإيراني حين فرضت عليه العقوبات التي مسَّت كل مفصلٍ من حياته؟ هل احترمت حقوق الإنسان التي تنعيها اليوم في أوكرانيا، وقد أبادت أعراقاً، ونهبت ثروات، وتركت لاجئين في مخيمات بائسة لا يعلم مصير أمدها، واستباحت حرمات، وقتلت من الأبرياء ما شاءت بدواعي محاربة الإرهاب؟

الإجابة على هذه الأسئلة معروفة بالنفي طبعاً، لأن التاريخ شاهد، والمواقف لا تحتاجُ إلى ذِكر. وها نحنُ نؤرخ دعوة وزير الخارجية البريطانية لفتح باب المقاتلين الأوروبيين إلى أوروبا، وتشكيل الرئيس الأوكراني لفيلق المقاتلين الأجانب لمقاتلة الروس بعد أن أخرج من السجون عتاة المجرمين، كما لا تخفى على أحد بعض الدعوات لمن يحملون الأفكار الداعشية وغيرهم ومصادرها معروفة..!

هل أوكرانيا بحاجة إلى مقاتلين أفراد، أم إن النية الحقيقية هي إنشاء بؤر إرهابية تطيل أمد الحرب، وتهدد أمن روسيا بحيث لا تستطيع إحكام السيطرة على أوكرانيا؟! الذين أنشأوا داعش والجماعات الإرهابية يعيدون اليوم إنشائها في أوكرانيا ثم يتبرأون منها بعد أن يرد شرَّها عليهم..!

وللمفارقة– وتأكيداً لما تقدَّم- نستمع لما قاله الكاتب والمخرج الأمريكي غونساليو ليرا في مقطع فيديو، صوره وهو متجول في شوارع العاصمة الأوكرانية: إن الوضع في المدينة يتسم بفوضى وسط حالات متزايدة لتبادل إطلاق النار، قبل أن تدخل القوات الروسية العاصمة كييف. ويضيف: "الإعلام الغربي لا يتحدث عن أن قرار (الرئيس الأوكراني زيلينسكي) توزيع السلاح على المدنيين أدى عمليا إلى تسليح عناصر إجرامية في المدينة، الذين وبعد تصفية الحسابات والصراع على النفوذ فيما بينهم، سيتحولون إلى استهداف المواطنين العاديين"..!

ليس دفاعًا عن بوتين، مع أنني أُدركُ أن هناك تعاطفًا واسعًا مع روسيا في الدول العربية بسبب ما عاناه العرب من السياسات الأمريكية والأوروبية غير المتوازنة وغير العادلة نحو قضاياهم وأبرزها قضية فلسطين التي برر لها الغرب جرائم الحرب التي تقوم بها، ومصادرة الأراضي، وضرب السكان الآمنين، وترويع المواطنين الفلسطينين، فأين هي أصوات الغرب وقرارتها من هذا الكيان الإسرائيلي المحتل الغاصب وهو يعربدُ قتلًا وحرقًا واحتلالًا لموطنٍ ليس وطنه، وشعبٍ أعزل؟! ولكن دفاعاً عن الحق السيادي أولاً، ثم كشفاً لزيف التضليل الغربي.

ما فعله فلاديمير بوتين هو الذود عن أمن بلده من أن تتموضع قواعد الناتو على حدوده لتصل صواريخه النووية في غضون 4 دقائق للأراض الروسية فهذا هو الهدف منذ 70 عامًا قد أوشك أن يتحقق!! فماذا لو فعلت روسيا أمراً مشابهاً على الحدود الأمريكية واتفقت مع المكسيك أو كندا على أن تنشأ قواعد عسكرية لها على الحدود الأمريكية، هل كانت أمريكا سترضى بذلك، وقس الأمر على دول أوروبا؟

أما عن الدعاية الإعلامية الغربية التي تدعي حرية الرأي والرأي الآخر، والمصداقية، والشفافية، فهذا ضربٌ من الكذب والتضليل، فقد كشفت التقارير واللقاءات والحوارات عن تزييف يقصدُ به تضليل الحقائق عن ما تفعله روسيا في أوكرانيا وصنع صورة الدكتاتور لفلاديمير بوتين الذي لم يعتدِ على أحد بل أنه هو المعتدى عليه، بل إنني وخلال متابعتني لقناة روسيا العربية RT قد لاحظتُ أن المحاورين قد استضافوا أصحاب أراء معارضة لروسيا وتركوا لهم مساحة يعبرون فيها عن آرائهم، وقد كان ذلك أحرى للغرب وهو يرفع شعار الحريات أن يفعله.

أقول مرةً أُخرى أنه ليس دفاعاً عن بوتين؛ بل هو دفاع عن المنطق، مع أننا لا يمكن أن نساند خيار الحربِ بأيِّ حالٍ من الأحوال، لكنه الخيار الأصعب والأمر الذي لابد من اختياره، وأعتقد أن على الدول العربية تحكيم عقلها آخذة في الإعتبار مصالحها بالدرجة الأولى، فما بعد الحرب ليس كما قبله، وروسيا والصين قطبان صاعدان لا يمكن إرجاعهما إلى الوراء بمجرد عقوبات عابرة!!