التفكير المألوف والتفكير العكسي

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

يُحكى أنَّ امرأة كانت تقود سيارتها بإحدى الطرق السريعة برفقة طفلها البالغ من العمر خمسة أعوام، فتفاجأت بتوقف حركة السير قرب جسر مشاة يقطع الشارع بالعرض، وطال انتظارها لأكثر من ساعة وتراكمت أعداد السيارات إلى درجة التضجر، هنا نزلت المرأة من سيارتها واقتربت من جسر المشاة لتكتشف أنَّ سبب الازدحام وتوقف الحركة هو اصطدام شاحنة تحمل حاويات بسطح الجسر المُعلق وتوقفها عن الحركة، حيث تقاطر عدد من رجال الشرطة ورجال الدفاع المدني وعدد من المارة في محاولات للبحث عن حل لهذه المشكلة بأقل الأضرار وضمان تدفق حركة السير بسلاسة مُجددًا. كثرت الآراء والحلول ولكنها في الغالب مُكلفة وغير منطقية، بين من يرى اقتطاع جزء من الجسر لتسهيل عبور الشاحنة، ومنهم من يرى التضحية بشيء من حمولة الشاحنة عبر قص قطعة من الجزء العلوي من الحاوية بمنشار حديدي لكي يسهل عبور الشاحنة وعدم الإخلال بهندسة الجسر لعلو تكاليفه مقارنة مع تكلفة الحاوية.

أيقنت المرأة بأنَّ انتظارها سيطول كثيرًا نتيجة غياب الحل النهائي لأمر الشاحنة وعادت إلى سيارتها تُحدث طفلها بامتعاض عمَّا رأته، هنا قال لها طفلها: لماذا لا يجربون تخفيض نسبة الهواء في عجلات الشاحنة ثم يخرجونها من تحت الجسر دون الحاجة إلى المساس بالجسر أو الحاوية!؟ هنا ذُهلت الأم من رأي طفلها والذي لم يدر في رأس أحد من رجال الشرطة أو الدفاع المدني أو المارة، وخرجت مسرعة إلى ضابط شرطة وأخبرته بالحل حيث صُعق من جمال الفكرة وعمليتها وشكر المرأة كثيرًا وكانت صدمة الضابط أكبر حين قالت له: ليست فكرتي بل فكرة ابني البالغ من العمر خمسة أعوام والذي يُرافقني في السيارة!!

العبرة هنا أنَّ الجميع كانوا يبحثون عن حل مألوف لمثل هكذا حالات فكان تركيزهم على كيفية الحل من الأعلى بينما الطفل رأى ببصيرته الحل من الأسفل ونجح حيث لا يوجد لديه تراكم للمألوف في عقله وتجربته كباقي الحضور فتحرر عقله وأتى بالحل غير المألوف. في عام 1989م قررنا أنا وزميل القيام بنشاط تجاري لبيع الأثاث، وبرأسمال محدود وفق قدراتنا المالية حينها، وقبل الإقدام على المشروع كنَّا نسأل من سبقونا في السوق عن متطلبات المشروع وجدواه، فكانت تأتينا الآراء محبطة من حيث رأس المال المطلوب للتأسيس ومن ثمَّ التبعات الأخرى للجدوى ونجاح المشروع وتطوره، فكدنا نلغي الفكرة من أساسها لولا تعلقي به وإصراري عليه، فكان التفكير العكسي خيارًا ورفيقاً لي لإتمام المشروع وإنجازه بعيدًا عن شروط الكمال التي سمعتها من هنا وهناك، وهي في الغالب تجارب مفيدة بلا شك ولكنها ليست قواعد ثابتة في العمل التجاري حيث تتفاوت القدرات العقلية والإدارية والطموح. قررنا استئجار محل كبير يمكن توظيفه لعرض البضاعة والتخزين كذلك لتفادي تكلفة البحث عن مخزن ومكابدة النقل والإيجارات ومزيد من العمالة، إضافة إلى الامتناع عن امتلاك سيارة نقل خاصة بنا والاعتماد على النقل المتوفر في السوق، والاستعاضة عن نقص العمالة بالعمالة الموجودة في السوق والتي يُمكن توفيرها بالأجر اليومي كلما دعت الحاجة لذلك، وبهذا تحقق المشروع بربع التكلفة وانطلقنا. والمراد من هذا المثال هو أهمية السعي إلى تحقيق الضرورات والأساسيات في أي مشروع وإكمال النواقص من المتاح في السوق دون الحاجة إلى المزيد من التكاليف من البداية طالما وجد البديل.

قمت بتشييد حوض سباحة "تقليدي" باستراحة لي، وكان الجميع يحدثني عن ضرورة تزويده بجهاز لتنقية المياه لتجديد الماء ومنع تراكم الطحالب على جدار المسبح حين تتعرض المياه الراكدة للشمس طويلًا دون حراك، إضافة إلى مظلة واقية من الشمس للحفاظ على برودة الماء ومنع تكون الطحالب كذلك، بينما كنت أنوي التخلص من الماء أولًا بأول والاستفادة منه في ري المزروعات حول الحوض وفي فناء المنزل كذلك وبالتالي لم أرَ داعياً لجهاز تنقية للماء نظرًا لكلفته المالية والتقنية ولعدم ضرورته، فكان تفكيري هو البحث عن بديل فيما لو احتجت إلى الإبقاء على الماء في الحوض لمدد طويلة، فأهتديت إلى إمكانية تزويد الحوض بأجهزة صغيرة ورخيصة وسهلة الاستعمال والتي تستعمل عادة لتجديد الماء والأوكسيجين لأحواض تربية أسماك الزينة، ثم أقترح عليَّ صديق فكرة طريفة وعملية كذلك طالما القصد هو تحريك الماء وضمان عدم ركوده وهي الاستعانة بسلاحف صغيرة تباع في محلات أسماك الزينة حيث تتمتع بحركة دائمة في الماء وبالتالي ضمان حركة الماء بشكل دائم. المراد هنا هو التركيز على فلسفة الشيء لا شكله طالما يتحقق الهدف، خاصة إذا كان تحقيق الهدف سيوفر الكثير من الجهد والمال كذلك.

قبل اللقاء: "الإبداع هو النظر إلى المألوف بطريقة غير مألوفة".

وبالشكر تدوم النعم.