توقفوا عن صناعة التافهين!

 

د. صالح الفهدي

أُعيدُ التأكيدَ على مقولةٍ سابقةٍ قلتها وهي: إذا أردتَ أن تقيِّم ثقافة شعبٍ فانظر إلى نوعيةِ المشاهير فيه، والفئات التي تحظى بالإهتمام، والشرائح التي تقدَّم في مختلفِ المجالات"، وإنني لأعجبُ أشدَّ العجب  حينَ أُراقبُ بعضَ المشاهد التي تُصنع فيها التفاهة، ويشكَّلُ فيها التافهون على صُعُدٍ مختلفةٍ؛ منها مجتمعية، أو إعلامية، أو مؤسسية.

تمارسُ فئةٌ من المجتمع التعاطي المزدوج الذي يصنعُ التافهين؛ فهو من ناحيةٍ يستنكرُ تصرفاتهم، ويندِّدُ بأخلاقياتهم، وخواء محتوياتهم، وعدمية خصوصيتهم، ومن ناحيةٍ أُخرى يتابع مقاطعهم، ويتأثر بإعلاناتهم وكأنما قد حسموا الثقة فيهم؛ فإن أوصى تافهٌ على عيادةٍ صحية تراكض الناس عليها، وإن أشارَ إلى منتج تسارعَ الناس إلى شرائه، وكأنَّما وصل الناس إلى مرحلة التخدير حيث تعطَّل العقلُ الرشيد الذي لم يعد له دور في رسم الخطوط الفاصلة بين الجدِّ والتفاهة!!.

في هذا الجوُّ المخدر تُعرضُ فيه الفئة التي تصنعُ أصنام التافهين عن القيم العُليا التي تميِّزُ بين الحقِّ والباطل، والصحيح والخاطيء؛ على سبيل المثال أحد الشَّواذِ قد أصبحت له منتجاته التي يُروِّجها بشذوذه، وتباعُ في أسواقنا، بل أن فتيات يطلبنَ مشورته، وقد أصبحَ بالنسبة لهن مستشاراً صاحبُ ثقة..!

 يقول أحد الذين كانوا يصنعون التافهين ثم أعلنوا ندمهم بعد ذلك:"لم أندم في حياتي لشيء كما ندمت على أني قلَّلت من شأن نفسي؛ صاحبت التافهين، أضعت أوقاتاً ثمينةً في اهتماماتهم التي لا تشبهني، كل ذلك بحجة البساطة والعفوية، ولكني أعلم الآن – متأخراً- أن الأـر ليس كذلك، بل هو سوء تقدير للنفس وإضاعة للموهبة في أوهام تضر ولا تنفع".

بعضُ منصَّات الإِعلام تساهم في صناعة التافهين حين أضاعت أهدافها الرئيسة في صناعة قيادات، وكفاءات، ومعرفة، وتعضيد البُنى الثقافية، وحماية الهويات، وصيانة الخصوصيات، فلم يعد من المستغرب استضافةَ منصَّةٍ إعلاميةٍ لتافهِ ليس له محتوى، ولا يملكُ رسالةَ يقدِّمها للناس، عدا عن تفاهته، مع أن الإعلامَ ليس بحاجةٍ إلى أن يكسبَ ودَّ هؤلاءِ التافهين الذين يعانون من مشكلات خواء الوعي، ويريدون أن يشيعون التفاهة في المجتمع.

وعلى ذلك، فإذا أظهر الإعلامُ تافهاً ليس له من رسالة فهو يُمنحهُ شهادة اعتماد وكفاءةٍ وقبولٍ على جودة محتواه التافه، ويؤكِّدُ له بأنَّهُ يمثِّلُ تياراً فاعلاً على تفاهته، الأمر الذي يُذكِّرني بمقولة مسؤول إعلامي لي وهو يتحدَّث عن التفاهة: هذا ما يريدهُ الجمهور، ومقولته: الناسُ لا تريدُ قيماً بل تريدُ (فرفشة)!! كيف يمكنُ أن يصنعَ الإِعلامُ قدوات فاضلة للمجتمع إذا كانت عقلية مسؤول إعلامي كبير تؤمنُ بالتفاهة على أنَّها "عقيدة اجتماعية"؟!!

أحد الذين التقوا بتافهٍ أغرتهُ نفسه بأنَّه يقولُ حكمةً يترفَّعُ عنها الأطفالُ في مناغاتهم الأُولى أطلقَ عليهِ لقب (حكيم)..! هذا المحاورُ لا يكون إلا على شاكلة ذلك التافه الذي رآهُ حكيماً؛ فالطيور على أشكالها تقع، والتافهون هم صنيعةِ بعضهم، وصنيعة بعض ممن لا يعوون مدى تأثيرهم على ثقافة مجتمعهم.

نحنُ شعبٌ له تاريخه المجيد، وسيرته العريقة، فكيفَ سمحنا لهؤلاء التافهين أن يكون لهم ظهور لافت، وكلمة صاخبة؟! كيف سمحنا لهم أن يتقمَّصوا أدوار (المؤثرين الاجتماعين) وهم في الأصل (المفسدين الاجتماعيين) أو (مروِّجي التفاهة)؟! كيف نحاربُ المؤثرات العقلية كإدمان المخدرات، ولا نحاربُ التفاهة وهذه علَّةٌ أعظمُ منها..؟! في الوقت الذي أخرست فيه دولٌ عربيةٌ هؤلاءِ التافهون لأنهم يشوِّهون الصورة الجميلة لثقافاتهم، ومجتمعاتهم، أو أنها قنَّنت ظهورهم وفقاً لمعايير واشتراطات.

أما الصين فقد شعرت بتفاقم خطر هؤلاء التافهين الذين أصبح يقلِّدهم  تيارٌ متسارعٌ وواسعٌ من الشباب متأسِّين بالقيم الغربية المنحدرة، فقامت بحملة شعواء ضدَّ هؤلاء المشاهير وقطعت كل ما يشيرُ إليهم في ليلةٍ وضحاها محافظةً على خصوصيتها من التأثـُّر المفسد الذي وصل به الأمر إلى تشبِّه الرجالِ بالنساء في تزيِّنهم!

وما من شكٍّ عندي أن من يتابعُ تافهاً، أو يثقُ في كلامه، ومن يستضيفه في منصَّةٍ إعلاميةٍ، فيصفهُ بالحكيم، أو بالمؤثِّر، ومن يوكلُ إليه الدعاية والترويج، ومن يدعوه لمناسبةٍ فيقدِّمهُ على الوجهاء الشرفاء، ومن يقابلهُ جاعلاً له مكانةً رفيعةً فهؤلاء جميعهم يصنعون التافهين، ويشاركون في تمييع المجتمع، ونسف القيم والثوابت فيه.

توقفوا عن صناعة التافهين ووضعهم فوق قدرهم الذي لا يستحقونه، لأنكم ترتكبونَ خطأً جسيماً في حقِّ أبنائنا، والأجيال القادمة!

توقفوا عن النفاق الذي تمارسونه على حسابِ الشرفاء الفضلاء الذين يفترض أن تجعلوا لهم مكانةً مرموقة، وشأناً عظيماً، وتترسمون خطاهم، وتفسحون المجال لأفكارهم الخلاقة.

توقفوا عن (تطبيع) التفاهة لأنكم ستقلبون معايير المجتمع القويمة رأساً على عقب، فيغدو الفاسدُ قدوة، والسَّفيه وجيهاً، والتافهُ معلماً ومستشارًا!

تعلَّموا من نوعين من الدول: النوع الأول تركت الحبل على الغارب للتافهين فأصبحت تفاهتهم ثقافة، أسقطت بها القيم، وأضاعت بها المُثل الكريمة، أما النوع الثاني فقد تعاملت بحزمٍ مع هؤلاء التافهين وشدَّ الوثاقَ عليهم حتى تحفظَ المجتمع من بوائق فسادهم، ومن انحرافاتهم، وتفاهاتهم.

وتذكروا أن الأُمم تبقى خالدةً، أو تسقط بسبب الأخلاق، فماذا أنتم فاعلون؟!