علي بن مسعود المعشني
صرح صاحب السُّمو الملكي الأمير تركي الفيصل بأنَّ أقطار الخليج العربية مُقبلة على سنوات عجاف بفعل تآكل العنصر البشري الوطني وغيابه التدريجي أمام جحافل الوافدين، وفي ذات الفترة خرجت إحصائيات تقول إنَّ النسب الأعلى للمواطنين في أقطار الخليج هي 62% في المملكة العربية السعودية و60% في سلطنة عُمان، بينما بلغت النسب الأدنى 13% في دولة قطر و11% في دولة الإمارات العربية المتحدة، وما بينهما مملكة البحرين بنسبة 49% ودولة الكويت بنسبة 31%.
الحقيقة أن مخاوف فناء العنصر البشري الخليجي وتراجع نسبه مقابل أعداد الوافدين ليست وليد اليوم، فقد أثير مرارًا وتكرارًا من قِبل نخب ثقافية وأكاديمية خليجية منذ مطلع السبعينيات من القرن الفائت وفي بداية طفرة النفط المقرونة بالتنمية الشاملة في أقطار الخليج والتي استدعت تدفق ملايين العمالة الوافدة إلى أقطار الخليج من مختلف الجنسيات والمهن طلبًا للرزق ومواكبة لوتيرة التنمية المتصاعدة في أقطار الخليج.
المشكلة أنَّ وتيرة التنمية تلك لم تتوقف يومًا عند سقف مُعين نتيجة التوسع العمراني وزيادة الكثافة السكانية إضافة إلى الحاجة الماسة إلى صيانة تلك المفردات التنموية وزيادة عددها أو زيادة قدراتها الاستيعابية، لهذا استمر تدفق العمالة الوافدة إلى أقطار الخليج بوتيرة تصاعدية.
واليوم تحمل أقطار الخليج رؤى تنموية كبيرة وبعيدة المدى لتنويع مصادر الدخل وخلق اقتصادات نوعية فاعلة، وبما أن هذه الرؤى تحتاج إلى عقول خاصة وعمالة ماهرة لا تتوافر عمومًا في أبناء الخليج، فستبقى الحاجة مفتوحة ومتصاعدة للعمالة الوافدة، الأمر الذي يُهدد التركيبة السكانية بأقطار الخليج ويجعل نسبة المواطنين بها أقليات مغلوب على أمرها.
المشكلة الأكبر اليوم في أقطار الخليج ليست في البحث والمواءمة بين متطلبات التنمية المتمثلة في الرؤى الكبيرة وسياسات سوق العمل؛ بل في القوانين والتشريعات التي سنتها أقطار الخليج لاستقطاب الاستثمارات والمستثمرين والتي جعلت تملك العقار فيها للأجنبي مقرونًا بالإقامة، الأمر الذي شجع الكثير من جنسيات العالم على استغلال هذا القانون والحصول على الإقامة عبر تملك عقار في البلد المقصود.
القصة ليست مُثيرة هنا؛ بل الإثارة عندما تتكدس الجاليات الأجنبية في أقطار الخليج مستقبلًا وتطالب بالانتفاع من قوانين أخرى كالجمعيات الأهلية وأندية الجاليات وإنشاء المدارس والجامعات الخاصة بها حفاظًا على هوياتها وثقافاتها، فكيف ستواجه أقطار الخليج هذه المطالب والتي لن تكون معزولة- في تقديري- عن ضغوط دولهم ومُنظمات دولية كذلك ترى في تلك المطالب حقوقًا طبيعية لتلك الجاليات؟!
الأمر الثاني يتمثل في ثغرات قوانين الجنسية في أقطار الخليج والتي ستجعلها مُغرية للإقامة الطويلة وصولًا إلى المطالبات بالجنسية وحقوق المواطنة الكاملة.
فيما مضى، كانت ملايين العمالة الوافدة- وما زالت- في أقطار الخليج، لكنها لا تشكل أي خطر على الهوية أو الثقافة العربية في الخليج، على اعتبار أنَّ أغلب تلك العمالة عبارة عن حرفيين وعمالة متدنية في تحصيلها العلمي، وهمها الأول والأخير هو كسب لقمة العيش وتحسين ظروفها المالية والعودة لبلدانها، إضافة إلى عدم امتلاكها لمنبر ثقافي أو فكري مؤثر كصحافة أو وسيلة إعلام أو مؤسسات تعليمية أو ثقافية تتعدى بعض مدارس الجاليات.
أما اليوم فالأمر مختلف تمامًا؛ حيث ستأتي جحافل من النخب والمتقاعدين والمستثمرين وهم في الغالب الأعم على قدر من الوعي والتعليم والتجربة والإمكانات المالية، وبالنتيجة لن يقبلوا العيش على الهامش كسابقيهم؛ بل سيبحثون عن كل هامش متاح لهم لاستغلاله وفق التشريعات والقوانين التي تسمح لهم بذلك، وهذا ديدن جميع الجاليات في العالم وليس بجديد أو محصور في جغرافية بعينها.
الثغرات التي تسلل منها الوافدون في السابق واللاحق- وبطرق قانونية بالطبع- تتمثل في تقديري في غياب منظومة التعليم الحقيقية بأقطار الخليج والتي تؤمِّن حاجات سوق العمل من الكفاءات والعمالة الوطنية القادرة على التنافسية وفق المعايير الاقتصادية والعقلية لا العاطفية وكما نرى اليوم.
الأمر الثاني هو الإفراط في وتيرة التنمية دون دراسة أو حاجات حقيقية، في ظل نسب سكانية محدودة، فنمو أي اقتصاد وتطور وتيرته مشروط بنخب تديره وعمالة ماهرة تسيره وعدد سكان يشكلون قدرة شرائية وهذه الشروط للأسف لا تتوافر بأقطار الخليج.
الحل في تقديري يكمن في تشجيع زيادة النسل بين المُواطنين، وإعادة النظر في منظومة التعليم بشقيه الإنساني والتطبيقي، بما يلبي حاجة السوق من الكفاءات الوطنية، إضافة إلى التشجيع السخي للمواطنين للإقبال على ريادة الأعمال وتشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كداعم رئيس للاقتصادات الوطنية.
وأخيرًا وليس آخرًا تفعيل قانون الجنسية بما يُحقق التوازن الطبيعي بين المواطنين والوافدين، وذلك عبر فتح المجال لتجنيس الجنسيات العربية وخاصة الكفاءات منها، تحت عنوان "تجنيس المنفعة" والذي تعمل به بلدان كثيرة حول العالم لاستقطاب مواطنين جُدد يُساهمون في دفع عجلة الاقتصاد والتطور فيها.
قبل اللقاء.. الأوطان لا تبنى بالنوايا الحسنة وحدها؛ بل بالتخطيط الجاد والرؤية البعيدة الواعية.
وبالشكر تدوم النعم..