عودة العصر الذهبي للنفط

د. عبدالله باحجاج

أسعار النفط تعود لعصرها الذهبي، صحيح أنه لن يجزم أحد باستمرار هذا العصر، لكنه الأصح، أن الأسعار النفطية ومنذ فترة وهي في ارتفاعات ملموسة حتى وصل سعر خام برنت يوم كتابة هذا المقال أكثر من 92 دولارًا للبرميل، ومؤشرات الأسعار المقبلة ذهبية، ولا يبدو أنَّ هذه العودة الذهبية ستؤدي إلى التخفيف من الضغوط الكبيرة على المجتمع، صحيح أننا لن نثق مجددًا في النفط، لكننا لا يمكننا تجاهل أسعاره المرتفعة منذ فترة حتى وصلت الآن إلى عصرها الذهبي، خاصة وأنها تأتي بعد أن دشنت البلاد مشاريع اقتصادية ونفطية ضخمة تُدر عوائد مالية إضافية كبيرة لخزينة الدولة.

ومع مجمل تلكم التطورات وانعكاساتها الإيجابية على مالية الدولة، ينتفي المُبرر الذي بني على أساسه خطة التوازن المالي (2021- 2024)، فقد بُينت على أساس انخفاض أسعار النفط بثورة مُخيفة، وسط توقعات باستمرار انخفاضه على المدى المتوسط، وعدم ارتفاعه مجددًا، وهو ما يحدث العكس الآن. لذلك؛ لا يمكن الاستمرار في القبضة المالية الحديدية حتى نهاية هذه الخطة، وهو عام 2024، ولا بُد من تخفيفها لدواعي اجتماعية واقتصادية مُلحة، وإلّا: هل يتصور أن تظل الخطة مقدسة حتى عام 2024 رغم الآلام الاجتماعية وصرخاتها المتصاعدة، وكذلك رغم تغير الأساس الذي بنيت عليه؟!

وحتى بعد عام 2024، فلن يتم التراجع عن السياسات المالية للخطة رغم ما قيل إنها متوسطة المدى؛ إذ جاءت لتؤسس مرحلة مالية دائمة من أسباب استثنائية، وهي انخفاض أسعار النفط، وتوقعاته السوداوية، وشاءت الأقدار الآن أن تزول هذه الأسباب، وتتعزز سيولة بلادنا المالية من مصادر اقتصادية مُتعددة. من هنا، يستوجب إعادة النظر في التفكير الاستراتيجي الذي بني عليه المستقبل المالي لبلادنا، والذي من خلاله رأينا انعكاساته على المنجز الاجتماعي للدولة، والذي ينبغي إمعان التفكير السياسي فيه من خلال تجربة العامين الماضيين 2020 و2021، وآفاقها لو استمرت البلاد على نفس هذا التفكير المالي إذا كان سيؤسس مرحلتنا الدائمة.

قد يرى البعض في إعادة تسعير الوقود والكهرباء نموذجًا لهذا التصحيح، وهذا ليس تصحيحًا، وإنما استدراكًا لمنطق الاستجابة لردة الفعل لفعل سياسات مالية قاسية، وقوانين جامدة، اتخذت خارج سياق روحها الاجتماعي، رغم أن هذه الروح ينبغي أن تصنع إذا لم تكن فيها؛ لأنها تتعلق بمناطق حساسة جدًا، تعتمد عليها قوة الدولة، منها منطقة الحقوق والواجبات، ومنطقة الولاء والانتماء.. فكيف إذا كانت الروح الاجتماعية موجودة، وجُردت منها؟

إنَّ استهداف الروح الاجتماعية بهكذا سياسات مالية، يُفرّغ الدولة من مفاصل قوتها الناعمة، وعندما تحتاج البلاد إليها لمواجهة تحديات داخلية أو خارجية، عندها سنُدرك خطورة هذه السياسات. لكن لماذا أذهب لهذا المدى الزمني المستهدف؟ دعوني أربطه بالتحديات المعاصرة التي تواجه الشباب داخليًا وإقليميًا، كي أوضح مدى خطورة هذه السياسات على قوتنا الناعمة، فهناك تحديات فكرية- أشرتُ إليها في مقالات أخيرة- وتحديات آيديولوجية وسياسية وفكرية تقف على حدودنا من الجهات الأربع، بعدما كانت من جهتين.. وكلها قد تستهدف هذه الفئة.

فعلى ماذا نُراهن على مقاومتها في ظل سياسات مالية وقرارات تفكك كل صناعة قديمة؟ وللأسف لا تُعيد بناءها برؤية متوازنة ووفق التوالي الزمني الطبيعي، وإنما وفق المؤجل حتى لعام 2040. فخلال هذه المدة الزمنية الطويلة جدًا، سنجدُ بوصلة هذه الفئة قد تحولت شكلًا وجوهرًا، وبوادرها الداخلية تفتح مثل هذه الآفاق، الإغراق المتصاعد في براثن المخدرات، وندعو إلى البحث في ارتفاع القضايا التي كشفها مؤخرًا الادعاء العام خلال العام 2021، لكي نرى نسبة الشباب فيها، فهي فعلاً تقرع جرس الخطر على المآلات الاجتماعية، وهنا تستوجب البحث الاجتماعي.

من هنا يُمكن القول صراحة، وبصوت عالٍ إنِّه من يعتقد أنَّ بإمكانه أن يحافظ على الاستقرار الاجتماعي عبر الاهتمام فقط بالفئات الأكثر تضررًا، فسيُدخل البلاد في أتون حسابات كلها مُعقدة، وهنا نموذج نقدمه للاستدلال به، وهو انشغال مرحلتنا الراهنة بتحسين شروط تطبيق بعض هذه السياسات المالية، مما يظهر المشهد الوطني الآن، أن سياسة الاستدراكات تدور حول الموضوع الواحد أكثر من مرة، ولم تكسب الرضا الاجتماعي، كقضية تسعيرة الكهرباء، ولن نخرج من هذه الدوامة.

لماذا؟ لأن تلكم السياسات المالية وراؤها فلسفة الاعتداد بالفئات الاجتماعية الأكثر تضررًا فقط، علماً بأن المجتمع في غالبيته يقع في فئة الأكثر تضررًا، وقد زادت من وحدة مساواته فيها، سياسات خطة التوازن المالي وبعض القرارات. من هنا، أرى ضرورة تغيُّر ماهية التفكير المالي للدولة الذي على أساسه بنيت خطة التوازن المالي، ونفتح إيجابًا مع تحسن سيولة الدولة المالية.. وإلّا، فإن الحكومة لن ترفع رأسها من عملية استدراك سياساتها المالية، ولن تنجح؛ لأنَّ مرجعية الأساس المالي الذي لم يتغير.

وارتفاع أسعار النفط مع المشاريع الاقتصادية التي عرفت النور، يحقق للحكومة الاستدامة المالية قبل 2024.. صحيح ليست الاستدامة الدائمة والمطمئنة، خاصة من جهة الموارد النفطية، لكنها وقتية، وطبيعة المرحلة تحتاج لها الآن لتخفيف الضغوطات القهرية على المجتمع التي جاءت كلها نتيجة انخفاض أسعار النفط؟

هذا لا يعني أن نرجع للمربع الأول الذي كنَّا نعتمد فيه على النفط بشكل مطلق، وانما التفاعل مع ارتفاع أسعار النفط من منظور أنه كان السبب الأول في الآلام التي يعاني منها المجتمع الآن، وأنه بهذا الارتفاع الكبير، ينبغي أن يقود مسيرة التخفيف الآن، مع الاستمرارية القوية في مسيرة التنويع الاقتصادي، وإلا، فهل لدى الحكومة الآن مؤشرات أو معايير تبني عليها مستويات الفقر والأمان الاجتماعي أو قدرة المجتمع على الصمود، وإلى متى بحيث تكون خطًا أحمر للسياسة المالية؟ لا توجد أبدًا، وهنا الخطر.