برستيج "معالي الموظف"!

 

 

حمد بن سالم العلوي

 

قبل عشر سنوات تقريبًا كتبتُ مقالة بعنوان "برستيج معالي الوزير" ونشرتها في جريدة الوطن، وكنت أظنُّ أنَّ الأمر سيتوقف عند معالي الباشا الوزير، لكن أجد أنَّ الأمر قد تطور كثيرًا، فما عدنا نعتب على تعالي معاليه، وهو من نال هذا التعالي بموجب البروتوكول المحلي "لقب معالي" وإذن من حقه هذا التَّعالي، وأن "يعيش الدور" كما ينبغي له، والحقيقة لا يتعالى على خلق الله إلا من كانت الوظيفة أكبر منه، أما عكس ذلك فلا مكانة للتعالي مع الواثق بنفسه، فهو يعلم أنَّه مكلفٌ بمسؤولية عامة لتقديم خدمة للنَّاس وللوطن، وعليه؛ فإنَّ التواضع واجب محتم، فعندئذ فإن الناس هم من يرفعون قدره لا أن يرفعه هو بنفسه.

لكن أن يأتي هذا التَّعالي من الموظف، أكان بسيطًا في الوظيفة أو كان بدرجات متقدمة من الترقي، فهذا الذي لا يستساغ منطقيًا، وأن يرفع نفسه وبنفسه إلى مرتبة معالي "الموظف"، وذلك من خلال ممارساته التعسفية تجاه النَّاس من المراجعين لمكتبه، طلبًا منهم لخدمة قد أقرها القانون عليه لهم. إذ يتفاجأ هذا المواطن بهذا الموظف صاحب السلطة، يزرعه في غرفة الانتظار لساعات طويلة، وذلك حتى يعشّب مجلسه، وهو في حالة انتظار بلا وقت محدد، وقد تُفلت أعصابه من هذا الإذلال والاستخفاف بوقته وكرامته، فيعود أدراجه إلى منزله دون أن يُحقق الهدف الذي قدِم من أجله، أو قد يتلفظ بألفاظ يفش فيها الغضب، فيستغلها معالي الباشا الموظف ضده، ويلبسه تهمة أقلها إهانة موظف حكومي، وأعلاها الاعتداء المباشر على الموظف إياه قُدّس جنابه.

الأمر الأخطر على هذا المراجع، إذا كان متقاعدًا بشكل عام، فيُنظر إليه على أنَّه مطرود من رحمة الموظف إياه، وليس من رحمة الله بالطبع، أما إذا كان يعمل في نفس الجهة، وليس شرطًا أن يكون قاسي السيرة وقتما كان في الوظيفة، ولكن يصبح محل تشفٍ وغلظةٍ من زميل العمل الحالي. قال لي أحد المُتقاعدين قصة فيها غصة لمَا حَدَث له، فيقول؛ دخلتُ فرع إدارة كنت مسؤولاً عليها قبل شهرين من إحالتي للتَّقاعد، فدخلت مكتب رئيس القسم، وألقيت عليه السلام، فعمل من نفسه مُتشاغلًا، ومدَّ يده قصده مصافحتي، وهو متربع على كرسي الوظيفة، فأستدرت نحو الباب حتى أغادر المكان بأقل إهانة، فنادى عليّ باسمي دليلًا على أنه كان يعرف من "أنا"، فقال آسف يا سيدي ما انتبهت لك، فقلت له: لم آتِ بطلب مُعاملة خاصة لي وحدي دون الآخرين، ونحن إذا نلقي السلام على قوم في سبلة عامة، ولا نكاد نعرف كل النَّاس، ولكن لا أحد يمدُّ يده بالسلام وهو جالس، ولكنك قصدت إهانتي، لذلك؛ لا أريد منك خدمة بمذلة. ويقول "خرجت دون أن أكمل المهمة التي قدِمتُ من أجلها"، وهناك نماذج كثيرة على هذا النحو تقع لي ولغيري من المُتقاعدين.

الموظف صاحب المعالي يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أن هذا المتقاعد لن يعود إلى الوظيفة مرة أخرى، برغم أن بعضهم يمتهن مهنة المُحاماة بعد التقاعد، وهي ليست بالمهنة الهينة، لكن علة التقاعد تطمر حاملها في وحل المجتمع المادي؛ بل صار اليوم يتصف بالمادي، لذلك لا بأس من إهانته وبهدلته، حتى يكون الدّعس عليه سُلّمًا لرقي الموظف على أعناق النَّاس.

طبعًا لا يجوز التعميم في هذه السلوكيات، ولكن هناك جهة ما أصبحت يُشار إليها بالبنان في غلظتها وقسوتها مع النَّاس، وهم يستغلون ما وقع في أيديهم من سلطة، كان يُراد منها تسهيل عمل تلك الجهة لإنفاذ القانون والنظام وخدمة الجميع، ولكن اختلط الأمر على شبيبتها، وشاقهم تقليد بعض الدول في التعسف باستغلال السلطة في غير محلها الصحيح، ولا أعرف كيف للعُماني أن يُغيِّر فطرته، وجلدته التي جُبل عليها طوال الدهر الماضي، وأن ينسلخ من ضوابطه الأخلاقية العُمانية المتميزة بالتسامح والتواضع، فيتنمّر لهذا السلوك الذي يخالف قيمنا وتقاليدنا، وذلك لمجرد أنه وُجد في هذا التكليف المشرف.

وبالمناسبة تجد الناس يهربون من التقاعد اليوم، ويرغبون البقاء في الوظيفة؛ لرؤيتهم ما نال غيرهم من إهمال وتسفيه، واستخفاف بالأشخاص المتقاعدين، وكم تمنيت لو يُكسر هذا الاستخفاف بإعادة بعض المتقاعدين للوظيفة، حتى لا يقطعوا باليأس الأمل بانتهاء صلاحية البشر عند نقطة التقاعد، ولو تتم إعادتهم لشغل مهن استشارية، وذلك بهدف إخراجهم من هجمة ضعفاء النفوس، أو أن يُصدر قانوناً لهم يحمي المتقاعدين من هذه الوصمة وبطش الموظفين بهم، ومنحهم بعض التقدير المعنوي.

ومن جانب آخر، أن يُدخل بعض الموظفين في دورات تأهيل بين وقت وآخر، ويكون للمتقاعدين دور في تأهيلهم، وتذكيرهم بأيام مفاضلة النَّاس بعضهم على بعض، وإن الناس للناس مهما كانت الوظيفة جميلة ومُغرية، ولكنها لا تفقد الإنسان قيمه الوجدانية في الحياة، وأن العُمانيين يجب ألا تنسيهم الوظيفة قيمهم الأخلاقية التي توارثوها، وضوابطهم الاجتماعية الخاصة بهم، وإن القيم الإنسانية ستظل مقدمة على جبروت الوظيفة، مهما طغت الماديات والمصالح الشخصية، وكما قال أمير الشعراء: (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت// فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا // صلاح أمرك للأخلاق مرجعه // فقوّم النفس بالأخلاق تستقم // إذا أصيب القوم في أخلاقهم // فأقم عليهم مأتما وعويلا).

إن ضياع السلوكيات لا ينبغي السكوت عليه؛ لأن الأمر سيتكرر وسيصبح اعتياديًا، وإن كان أمرًا ممقوتًا من الكثير من الناس، وسوف ينعكس على القيم الوطنية بأكملها، وذلك بمضي الوقت، وهذا الشاب اليافع الذي لم تربه السَّبْلة العُمانية بقيمها الفاضلة، ولم تعوضه المدرسة عن ذلك الفقد الكبير، ومع انشغال الآباء بأمور أخرى بعيدة عن القيم والعادات العُمانية الأصيلة، وألا يترك النشء لوسائل الاتصال الحديثة تمرجحه، وحتى لا يتعلم أموره الحياتية منها، فيكون الأمر عندئذ أشبه بصيد الشباك، الذي يصيد الصالح والطالح، وأن التوجيه السامي الذي أبداه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في لقائه بالمشايخ والرشداء في حصن الشموخ، فهو وإن كان نصحًا أبويًا عامًا، لكنه توجيه سامٍ من لدن قائد حكيم ثاقب النظر بعيدُ البصيرة، فيجب أن يُعمل على تنفيذه كقانون واجب النفاذ، لما فيه مصلحة الفرد والمجتمع..

حفظ الله عُمان وشعبها الأبيِّ وسلطانها المفدَّى من كل سوء ومكروه.