سحر ليالي العُلا

مدرين المكتومية

عادةً عندما نصفُ مكانًا زرناه بأنه ذو طبيعة ساحرة، يكون الأمر منطويًا على مُبالغة بقدرٍ ما، لكن في حقيقة الأمر وبعدما زرتُ منطقة العُلا التراثية في المملكة العربية السعودية الشقيقة- واحدة من أحب البلاد إلى قلبي- لم أجدُ أفضل من كلمة "سِحْرٍ" كيف أصف ما أصابني بعد هذه الزيارة المُبهجة، التي أسرّت قلبي، وأنعشت روحي، وسكبت أنهار السعادة في قلبي ونفسي.

ويُمكنني القول إنَّ أي إنسان يُريد التخلص من ضغوط الحياة والانطلاق بين أحضان الطبيعة الساحرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عليه أن يتوجه إلى العُلا، حيث حياة ما وراء الآفاق، والطبيعة الخلابة الجذابة، والحياة بتفاصيلها الهادئة، والبشر بتكوينهم الأصيل.. وعندما يسألونك عن العُلا، وما أدراك ما شتاء وليالي العُلا، فقل إنِّها قطعة ساحرة من أرض طاهرة، وشعب أصيل تمتد جذوره الثقافية والحضارية إلى أبعد ما يمكن تخيله.

في العُلا تحملق بعينيك للسماء وتنظر لتلك النجوم المُنيرة وكأنك تشاهد لوحة فنية هاربة من ريشة فنان، والجبال تحيط بك وكأنها تحتضنك بقوة وتضمك إليها ضمة محب مشتاق لمحبوبته.

تحتسي فنجان قهوة، تستشعر فيها دفئ ليالي الشتاء الباردة، تمسك هاتفك الصغير لتبحث عن أقرب رقم لقلبك لتبعث له برسالة جميلة أو صورة شاعرية، فالمكان بحد ذاته كمعرض فني مصور لا يسعك فقط إلا أن تشاهد وتستشعر ما تراه.

ما إن تجلس في زاوية مقهى بمنتجع شاذن العلا إلا وتشاهد الطاولات وهي تمتلئ بالزوار، هناك من يبقى وهناك من يهرب من البرد، وهناك من يجلس ويتسامر اللحظات مع من يشاركه المقاعد، وأنا في الزاوية انتظر لحظات الشروق، انتظر ساعات الفجر الأولى التي توقفت معي دون أن تتحرك.

ما أجمل أن تعيش ليالي العلا، دفء النار الموقدة، وملابس الشتاء الدافئة، وأنواع الشاي التي نحتسيها، بجانبي رفقاء الرحلة، كل منهم له حكايته، وتفاصيله التي تميزه عن الآخر، اجتمعنا على نفس المقاعد، عشنا اللحظات ذاتها، كل منِّا شارك سره الصغير مع الآخر، وتعاهدنا أن تجمعنا العلا من جديد، إنهم يحكون عن الحياة، عن تعايشهم، لكنهم جميعًا وعلى رغم اختلافاتهم اجتمعوا على أن مشاعرهم في هذه الليالي مرتفعة عالية كما العلا بالضبط.

يغادر كل منِّا الطاولة، متجها كل واحد منهم لغرفته لينفرد بنفسه، ومنهم من يظل جالساً بمكانه يتأمل عبور الزمن من حوله، اهرب من الجميع ولكنني أفكر في هذا المكان الساحر، أفكر في الكيفية التي يمكن فيها للمرء أن يشعر أنه يمتلك شيئا أجمل بكثير من "بالطو فرو" أو زجاجة عطر "شانيل غابرييل"، وربما أجمل بكثير من رحلة تسوق.

في العلا أنت لا تهرب من عالمك، أنت تذهب لعالم آخر يحتويك، لا تبحث عن أجمل دور التسوق الشهيرة، بل تبحث عن السكينة والاطمئنان، عن ذاتك التي أضعتها منذ زمن طويل وسط مشاغل وإيقاع الحياة المتسارع، العلا تعطيك الفرصة الحقيقية لتجد نفسك قليلا، لتعرف ذاتك أكثر، لتكون حقيقيا بعيدا عن التصنع والزيف، وبعيدا عن ما تمليه عليك حياة الترف، إنك في المكان الذي ترتدي فيه الحب بدلاً من جاكيت فيرزاتشي، وتحتسي فيه القهوة العربية السعودية بدلاً من فنجان إسبريسو، المكان الذي تشاهد فيه الحياة بواقعيتها.

في ليالي العلا أنت تبحث عن نفسك، تحاكي الطبيعة، تتفكر في هذا البناء الرباني الطبيعي، وعظمة تكوينها، إنك تبحث فيها عن شريك ورفيق يفهمك من نظرة ولديه متسع كاف من الوقت ليستمع لرؤيتك للمكان، وتوجهاتك، وسردك لمشاعرك في لحظات المساء، السماء كمظلة تُنير عتمتك، والأرض كبساط ذهبي يحملك، وبرودة الشتاء تعطيك شعور المساءات الأوروبية، إنها العلا بكل ما فيها من لحظات، تجعلك تستشعرها وتشعر بها، وتشعر بكل لحظة فيها وكأنك تعيش محطة كاملة من محطات عمرك، إنها العلا التي تشعر بها بعلو نفسك، وعلو مشاعرك، وعلو طاقتك الإيجابية، وتفجُّر سعادتك دون أن تدري لماذا؟ لكن الإجابة سهلة ويسيرة.. إنك فقط في العلا: هلا وغلا فيك!