لا تعذبني وإلا...

 

أنيسة الهوتية

"لا تعذبني وإلا سِرت وتركت المُكلا لَك... إذا ما فيك معروف".. هذه أكثر جُملة أو مقولة اشتهرت من قصيدة سِر حُبي للشاعر القدير المُخضرم -رحمه الله- حسين أبوبكر المحضار، وفيها نرى طبيعة إنسانية نادرة وهِي عزة النفس العالية والسعي لحفظ الكرامة عن المذلة من حيث ترك الشيء الذي يحبه الإنسانُ ليس بغضاً أو كُرهاً إنما حِفاظاً على نفسه العزيزة وحمايةً لها ولكرامتهِ من المذلة التي تأتي من محبة الشيء إنساناً كانَ أو غيره.

ففي أغلبِ الأحيان يقتنع الإنسان بأن التمسك بالشيء إثباتٌ ودَليلٌ قاطع على الحُب الصادق، وهذه قناعةٌ صحيحة وثابتة، ولَكِن لكل قاعدة استثناء والاستثناءُ هُنا هو عندما تحب شيئاً أو شخصاً والحب يكون من طرف واحد، أو حين تكون في تلك المحبة مشقةٌ على الإنسان، فبالتالي مع تلك المشقة لا يستمتع بمشاعرهِ؛ بل سترهقه تِلك المشاعر وتتعبه وتعذبه إلى أن يصل إلى درجة الذُل والهوان إرضاءً لذاتهِ الدُنيا المتعلقة بما يُحب، أو إرضاءً للشخص الذي يُحب، وفي كِلا الحالتين فإنِّه يُكلفُ نفسه أكثر من وسعها وطاقتها على التحمل.

ولَرُبما في حالاتٍ نادرة جدًا وحين يكون هذا الإنسان بِلا حول ولا قوة، فإنِّه سيرتضي الاستمرار في تلك المذلة، ولهُ الأجر عند الله تعالى، وحينها يكون وضعه كما قال المثل: "ما يصبرنا على المُر غير الأمر منه".

وللأسف الشديد الإنسان بطبيعته يتعلق بما حوله تعلقًا غريبًا حتى وإن تنافر معه، وَالتعلق بالشيء لا يكون حُباً له؛ بِل تعود عليه، خاصة عند الأشخاص الذين يحبون الاحتفاظ بزاوية الأمان في حياتهم والتي تتضمنها أماكن وأشخاص وأدوات، وأيضًا لربما وظائف وأعمال؛ حيث نرى أحدهم يحصل على عرض وظيفي براتب ومنصب مغرٍ، لكنه لا يزال يتمسك بما في يده؛ لأنه يخشى أن الانتقال إلى الوظيفة الجديدة التي ربما تسلبه راحة نفسه، أو ستبعده عن زملائه الذين تعود عليهم وأحبهم! ومثل هذا حُب بعض النساء وصبرهن على أزواجهن رغم حياة المذلة التي يعِشنها معهم! خوفًا على تعليق المجتمع عليهن بلقب مطلقة أو خوفًا على عيالهن من تأثيرات الطلاق السلبية أو حتى التعلق بالزوج الانتهازي والظالم، فقط لأنها تعودت عليه! وأصبحت تغفر له زلاته وتعد له حسناته وإن قَلت.

ومن أمثلة التعلق، التعلق بالذكريات جميلةً كانت أم قبيحة، سعيدةً كانت أم حزينة، ترى الإنسان يتعلق بها ويربط نفسه بتلك الأماكن فيبقى يزورها ويتتبعها حنينًا لزمنٍ مر، لكنه لا ولَن يجد تلك اللحظة حتى وإن تواجد بذات المكان، إلا أنَّ الزمان والأشخاص مختلفون، وإن جاء بالأشخاصِ أنفسهم، إلا أنَّ اللحظة تِلك لن تتكرر؛ لأنَّ الأشخاص يتغيرون في أفكارهم وحضورهم ورغباتهم وحماسهم وشخصياتهم، كل شيء يتغير في الإنسان ولا يبقى هو نفسه كما كان قبل عشر سنوات أو أكثر أو أقل. والدليل أنَّ كل واحدٍ مِنِّا إذا ذهب إلى الوراء عشر سنوات سيضحك على تصرفاته وأفكاره ويستغرب: لماذا كانَ كذلك؟

أضرب مثالًا هنا بصديقة قابلتها بعد اثني عشر عامًا وتحدثنا طويلاً عن الأيام الخوالي، ومع السوالف الكثيرة فجأة تَذَكَرتْ شيئًا وضَحكَت على نفسها وقالت: أتتذكرين فُلاناً؟ كم كنت غبية عندما أحببتُه، لا أصدق أنني كنت كذلك! وَدعوتُ الله ليلَ نهار أن يطلبني للزواج، وحزنت كثيرًا ومرضت عندما تزوج من واحدة أخرى! أتصدقين أنني اليوم أشكر الله أنه لم يفعل، لأنني فعلاً وهبني الله زوجاً رائعاً، رَجُلاً ليسَ كباقي الرِجال.

فقلت لها: الحمدلله الذي أرضاكِ بقدره، وجعلكِ قوية على تركِ هواكِ ولَم تُجنِّ كما جُن قيسٌ بَليلى!