د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
قامت أدبيات التيار القومي عبر نصف قرن على هجاء "الدولة الوطنية"؛ كونها كياناً مصطنعًا رسم المستعمر حدودها الجغرافية لمصالح استعمارية، طبقاً لسياسة "فرق تسد" ومن ثم هي معوقة لتحقيق الحلم القومي "الدولة القومية" الجامعة للعرب، بينما قامت أدبيات التيار الإسلامي الحركي على الدعوة إلى دولة عابرة لحدود الدولة الوطنية وصولاً إلى "دولة الخلافة" الجامعة للمسلمين.
هكذا نشط التياران في تشويه مفهوم "الدولة الوطنية" وإضعاف شرعيتها في الوعي الجمعي العربي، كما إن الدولة الوطنية نفسها ومنذ استقلالها لم تنجح في ترسيخ شرعيتها كدولة قانون تساوي بين المواطنين بغض النظر عن أصولهم ومعتقداتهم، وتعمل على دمج كافة الأطياف والطوائف عبر التعليم والتثقيف والإعلام والتشريعات العادلة والفرص المتكافئة والعدالة الاجتماعية وتعزيز الحريات المدنية في "الإطار الوطني الجامع"؛ بل كانت تشريعاتها وتعاملاتها وإجراءاتها وتوزيعها للمناصب القيادية تمييزية قبلية وطائفية وشللية وفئوية ومناطقية وطبقية تفتقد العدالة وتكافؤ الفرص، وبقي حديثها عن "الوحدة الوطنية" و"المواطنة" مجرد شعارات لا مضامين لها، وهذا ما عزز استدامة تعصب الفرد لقبيلته وطائفته وجماعته العقدية، فحين يشعر الإنسان بالظلم ويفتقد عدالة التشريع يحتمي بقبيلته وطائفته وجماعته.
ومن استقلال الدولة الوطنية إلى صرخة البوعزيزي التي أشعلت فتيل ثورات الربيع، فثمة قرابة 60 سنة صبرت شعوب هذه الدول المركزية على ألوان الظلم والذل والهوان وإهدار الكرامة، بعدها هبت الجماهير وأسقطت الأنظمة القائمة، وكان سقوطها سقوطًا لهيبة الدولة والقانون والنظام والأمن، وكان البديل كارثيًا مرعبًا؛ إذ أعقب غياب الدولة فوضى عارمة استغلتها التنظيمات الإرهابية وقوى الشر والميليشيات المسلحة المنفلتة لنشر الخراب والدمار وإراقة الدماء، واستيقظت المواريث التعصبية المتراكمة والمقموعة بقوة السلطة المركزية قروناً لتصفية حساباتها مع الطوائف والأقليات الدينية والمذهبية والإثنية التي استوطنت المنطقة منذ العصور السحيقة وتهجيرها إلى الخارج، وتفككت جيوش دول عربية وأصبحت عاجزة عن تأمين الحماية لشعوبها وعاجزة عن الذود عن حدود أوطانها، استبيحت حدودها وفقدت هويتها وأصبح قرارها رهناً بالقوى المهيمنة الخارجية، ليصدق تحذير الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي اليمني : لايصلح الناس فوضى لا سراة لهم (ولاسراة إذا جُهالهم سادوا.. تلفى الأمور بأهل ﺍﻟﺮﺷﺪ ما صلحت.. فإن تولوا فبالأشرار تنقاد).
فلا دولة وطنية قوية، ولا هيبة للقانون والنظام، لا وطن ولا أمان ولا استقرار ولا تنمية ولا هوية. هنا علينا نحن الخليجيين أن نحمدالله على نعمة أن دولنا الخليجية كانت محصنة أمام غزو فيروسات الربيع، لكن مفعول هذا التحصين قد لايستمر طويلًا، وعلى دولنا الخليجية المسارعة لتنشيطه وتعزيزه عبر تصحيح أوجه "الخلل الديمغرافي والإنتاجي والسياسي" المتعاظمة بفعل سياسات فائض الريع التي مكّنت دولنا الخليجية الهيمنة على مجتمعاتها وابتلاعها، وتهميش قوة العمل المواطنة؛ بل الاستغناء عنها في ظل تزايد استقطاب قوة العمل الوافدة في دول خليجية.
كان المجتمع الخليجي قبل الفائض الريعي نشطًا منتجًا، كانت علاقة الدولة الخليجية بمجتمعها علاقة اعتماد متبادل، الدولة بحاجة إلى المجتمع اقتصاديًا كما كان المجتمع بحاجة إلى الدولة في تأمين دوره الإنتاجي، ثم تفكك هذه الاعتمادية التاريخية المتبادلة بفعل عاملين: تعاظم الفائض الريعي الذي شل الدور الإنتاجي للمواطنين، واعتماد الحكومات الخليحية على العمالة والخبرات الوافدة بشكل متزايد.
دروس التاريخ تعلمنا أنه لا يمكن لهذا الوضع الاستثنائي- أي اعتماد الدولة على الفائض الريعي لا العمل الإنتاجي وعلى قوة العمل الوافدة لا على جهد مواطنيها- أن يستمر؛ لأنه وضع غير طبيعي، له أكلاف باهظة تستنزف الموارد العامة، وله انعكاسات خطرة على الهوية والأمن والمستقبل الخليجي.
لا يمكن للخليجيين أن يستكينوا ويرضوا أن يكونوا عالة على جهود غيرهم، وعلى فتات الريع، وآن للمجتمع المدني الخليجي أن ينشط طاقاته المعطلة ويتحمل مسؤولياته التاريخية تجاه تنمية وطنه ويسترد اعتباره، وآن للمواطنين أن يتعاونوا ويعتمدوا على أنفسهم ويستعيدوا دورهم الإنتاجي المهمش، من أجل المحافظة على الكيان الخليجي وعلى مستقبل أجيالنا.
يتبع،،،
** كاتب قطري