سالم بن نجيم البادي
يرغب ضحي في التحليق مثل النسر بحثاً عن حريته المنقوصة في فضاءات رحبة وصحارٍ ممتدة إلى ما لا نهاية، بعد أن أدمت القيود يديه وقدميه وروحه المتحفزة دوما للمشاكسة وركوب المخاطر والسير عكس التيار، والخروج عن القطيع، ونفسه المتهورة ترفض المألوف والرتابة والروتين والمعتاد وهو يُحطم القيد تلو الآخر ويحارب من أجل حريته، وقد أزعجته الآفات المنتشرة في المجتمع مثل النفاق والزيف والكذب والغيبة والنميمة والمجاملات الممقوتة وفعل الشيء أو تركه من أجل الناس ومحاولة كسب رضا الناس، وقد أيقن أخيراً أن تلك غاية لا تُدرك، ومضى يحلم بالمدينة الفاضلة وسكانها أهل الصلاح والتقوى والزهد والورع هو يحلم والحلم مباح ومتاح للجميع.
وقد ودع سنوات كان فيها الفتى الطيب المُهادن الودود الشهم، وهو يعلم أن كثيرا من الناس يعتبرون طيبته تلك ضعفا وتخاذلا وخوفا وسذاجة مفرطة.
قرر ألا يُبالي وأن يترك المثالية جانبا وأن يعيش لنفسه؛ حتى إنه خفف من التزاماته العائلية، وقال في نفسه إنه ينبغي على كل فردٍ في العائلة أن يتحمل جزءا من المسؤولية عِوضًا عن ترك كل شيء عليه وحده، كان يفعل كل شيء بلا مُقابل ودون أن يحصل على كلمة ثناء واحدة لأنهم يعتقدون أنه يقوم بواجبه، وهذه مسؤوليته التي رضي القيام بها، لكنه تركها الآن.
وراح يطارد الغيم والمطر والضباب والريح والصبا، وشروق الشمس، ويودع الشمس عند الغروب، ويتماهى مع الطبيعة، ويعقد صداقات مع الحيوانات والطيور والشجر والعشب والورد والأزهار والحشرات والفراشات.. يريد أن يرتاح قليلاً من قضايا الناس ومن مشكلات العالم، وهو المسكون بوجع الإنسان في كل بقاع الدنيا، لكنه قرر الآن ولا يعلم إلى متى اللامبالاة والهروب والنسيان والتغافل.
تقمَّص دور الجاهل ولبس ثياب الأغبياء، وتجاهل النقد وكلام الناس، وأعرض عن النصائح والمواعظ، ولم يعد يهتم إطلاقاً بما يقول الناس عنه؛ لا المدح يطربه، ولا الذم يزعجه، "لا أحد يسلم من كلام الناس حتى الأنبياء والملوك".. قال ذلك لنفسه، وسار بين الناس لا يُبالي.
والعالم من حوله يضج بالمتناقضات والغرائب واللامعقول، عالم مجنون، مجنون لكنه ترك كل شيء خلف ظهره، وقرر أن لا يهتم، وقد ألغى الكثير من الخطوط الحمراء، إلا أنه لا يخالف تعاليم الدين، ولا يخرج عن القانون، وهو ليس قوياً بما يكفي لمحاربة كل من حوله، لكنه يثق بنفسه كثيرا، يتصرف كما الأطفال، ويشاطرهم ألعابهم، يعود إلى زمن البراءة والطهر، ويقضي جل وقته مع أغنامه وجماله في البراري والجبال، هارباً من الضجيج والتلوث وأخبار الدمار والحروب والبؤس والفقر والأوبئة.. كورونا وأخواتها. وقد عاد إلى الحب يُغنِّي غناء العاشقين ويتلو أناشيد الغياب وأهازيج الأشواق ويزور الأماكن التي قضى فيها طفولته، ويمر على المدارس والجامعات التي درس فيها، والشوارع والأسواق التي كان يرتادها أيام الصبا والشباب، يرغب في نسيان الواقع وقد تأبَّط حقيبة الحنين والذكريات والأمنيات المؤجلة، وكلما أحس بالحزن يعود للجبال موطنه وعشقه ومكان هروبه؛ اعتزل الناس لكنهم لم يتركوه وشأنه، قالوا: "مجنون، الله يشفيه"، وقالوا: "مغرور ومتكبر"، وقالوا "مسكين، عنده عُقد نفسية"، وقالوا: "انطوائي وغريب الأطوار"، وقالوا... وقالوا... لكنه كان سعيدا بالحرية وغير مبالٍ.