العولمة والهوية الوطنية

 

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

 

الهوية هي أثمن وأغلى ما تملكه الأمم والشعوب؛ بل وحتى الأشخاص أنفسهم، فالإنسان عند ما يفقد هويته الوطنية أو شخصيته التي تميزه عن الآخرين؛ يصبح في أعداد المحكوم عليهم بالفناء، وذلك لانسلاخه عن ذاته ومحيطه ومجتمعه، ويغدو كائناً مستنسخاً مجهول الهوية، غير معروف يهيم في هذا العالم الذي تسيطر عليه تيارات جديدة وثقافات دخيلة على قيمنا الأصيلة، وديننا الحنيف وشريعتنا السمحاء، ذلك لكونه يذوب في ثقافات غريبة، ويعيش مغترباً في وطنه وتتقاذفه الأفكار الهدامة والسلوك المنحرف الذي يعبر الحدود والسماوات المفتوحة بدون رقيب أو عتيد. فيمكن تعريف الهوية الوطنية بأنها "الكيفية التي يعرف بها الناس ذواتهم أو أممهم للآخرين، وتتخذ اللغة والدين والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا أشكالًا لها".

أما مصطلح العولمة "Globalization" الذي سيطر على الساحة العالمية منذ تسعينيات القرن الفائت، والذي يعني اختفاء الدولة الوطنية وتهميش الثقافات المحلية وتحول العالم إلى منظومة كونية واحدة تحت سيطرة النظام الليبرالي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، على أن تكون لغة التحدث في النظام الكوني الجديد هي الإنجليزية، بينما العملة المعتمدة الدولار الأمريكي واللباس هو القميص والجنز، والطعام هو الوجبات السريعة من مطاعم "برجر كينج" و"ماكدونالدز" وغيرها، ويتخذون من المسيحية وأحيانا الإلحاد معتقدات روحية لهذه الآيدلوجية الصاعدة!

رواد العولمة يقدمون النموذج الغربي الليبرالي في نظام الحكم؛ باعتباره الأنجح والأفضل للبشرية خاصة بعد تفكك المعسكر الشرقي، وانهيار الشيوعية في عقر دارها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق؛ إذ ظهر إلى الوجود حفنة من المبشرين بعصر كوني جديد يسيطر على العالم؛ كان في مقدمة هؤلاء الكتاب السياسي الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما الذي ألف كتاب "نهاية التاريخ" وزعم أن الديمقراطية الغربية ستسود العالم وتستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ بشرط القضاء على الإسلام! ولم يكن فوكوياما الوحيد الذي يؤمن بتفوق الثقافة الغربية؛ بل أجمعَ معظم المفكرين الأمريكيين على وضع الدين الإسلامي في خانة العدو البديل للحضارة الغربية بنهاية الحرب الباردة، كما توضحه كتابات المبشرين بعصر العولمة وسيطرة الرأسماليين من المنظرين الغربيين على العالم. فهؤلاء من أمثال صموئيل هنتنجتون، وفرانسيس فوكوياما، حرّضوا على الإسلام والمسلمين واتهموهم زورًا بالإرهاب والتطرف وعدم قبول الآخر؛ إذ يقول هنتنجتون: "لا مجال ولا إمكانية للتعايش مع الحضارة الإسلامية لأنها تختلف عن الحضارة الغربية". لقد وفرت التكنولوجيا الرخيصة كل السبل السهلة للوصول إلى جميع أقطار العالم وعلى وجه الخصوص الجمهور المستهدف بمختلف الأعمار في هذا الكوكب الذي تحول إلى منزل صغير، وذلك من خلال البث المباشر للقنوات الفضائية بأنواعها المختلفة، وشبكات الإنترنت العمومية والفرعية التي تغذيها منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت خارج سيطرة الجميع، فهناك أكثر من مليار ساعة مشاهدة ترفع يوميا عبر "يوتيوب"، الذي يعمل على مدار الساعة مغذيا المشاهدين في أرجاء المعمورة بمختلف المشاهد والقصص والروايات التي تشكل بعضها خطورة بالغة على جميع فئات المجتمع خاصة الشباب والأطفال الذين يرتادون هذا الموقع لساعات طويلة بعيدا عن رقابة الوالدين والأسرة.

صحيح أن للعولمة أوجه عديدة غطت نواحي الحياة في هذا العالم كالعولمة الثقافية والإعلامية والاقتصادية؛ لكن أثبتت السنوات القليلة الماضية إخفاق الأخيرة "العولمة الاقتصادية" وفشلها في تحقيق ما يعرف بالتكامل الاقتصادي على المستوى العالمي، وذلك في أول اختبار لها بظهور وباء كورونا (كوفيد-19) في أواخر 2019، ويتمثل هذا التراجع في إغلاق الحدود بين الدول، ومنع المهاجرين والأجانب من دخول أوروبا والولايات المتحدة وانقطاع سلسلة الإمدادات خاصة الطبية منها بين الدول، والأهم من ذلك كله إخفاق أمريكا في حماية مواطنيها من الوباء، وكذلك محاولة انسحاب هذه الدولة الكبرى التي تتولى قيادة العولمة من الساحة الدولية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب؛ إذ يعتقد بعض المحافظين الجدد أنَّه بإمكانهم قيادة العالم دون ثمن باهظ، والذي يتمثل في الاستمرار في السيطرة على المواقع الاستراتيجية ومصادر الثروات في مختلف الدول التي تتواجد فيها قواعد عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في الخارج. كما إن بروز الحكومات الوطنية في هذه الجائحة وإدارة هذه الأزمة العالمية بنجاح مقابل عدم؛ قدرة منظمة الصحة العالمية على القيام بدور المظلة العالمية التي تسوعب الجميع خاصة تقديم الدعم واللقاحات للدول الفقيرة، قد وضع علامات استفهام عديدة حول مستقبل العولمة الاقتصادية.

لا شك أن التفوق الغربي في العولمة الإعلامية لم يشهد أي تراجع في مُختلف المراحل؛ بل يزداد قوة وسيطرة يومًا بعد يوم، وتتجلى هذه القوة الضاربة في ما يُعرف بالثالث التكنولوجي الذي تسيطر عليه الدول الغربية خاصة أمريكا والمتمثل؛ أولا: في وسائل الإعلام السمعية البصرية؛ فأكثر الأفلام مشاهدة في العالم هي الأفلام الأمريكية، بنسبة تصل إلى 90% من إجمالي الإنتاج العالمي؛ هذا فضلا عن شبكات الأخبار ذات الانتشار العالمي مثل (CNN) وغيرها من القنوات العالمية. ثانيًا: الطريق السريع للمعلومات تحتل فيه الولايات المتحدة المرتبة الأولى؛ ثالثا: مصادر المعلومات أمريكية الصنع، فأكثر من 65% من المعلومات العالمية تنطلق من مدينتي واشنطن ونيويورك.

من هنا كشفت الدراسات التي أجريت في 41 دولة حول العالم في خضم صعود مفهوم العولمة عن تفضيل الثقافة الأمريكية على حساب ثقافاتهم المحلية بنسبة وصلت إلى 60% من الذين شملهم الاستطلاع في دول الجنوب الفقيرة.

محليًا.. لم نكن أفضل حالًا من الدول التي تعرضت للغزو الثقافي الغربي، فقد بدأت بعض التأثيرات السلبية للبث المباشر في عقد التسعينيات القرن الماضي؛ إذ كانت السلطنة ثاني دولة عربية بعد تونس تسمح للأسر العُمانية باقتناء الأطباق الهوائية التي تحمل مئات القنوات العربية والأجنبية. ونشرت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية استطلاعًا حول المؤشرات الأولية لتلك التأثيرت السلوكية غير المرحب بها، والتي ظهرت على بعض أفراد المجتمع العماني لأول مرة؛ إذ عزا علماء الدين والمسؤولون في إدارات التحريات والتحقيقات الجنائية في السلطنة، ذلك إلى مضامين البرامج الفضائية التي تشاهد في السلطنة في ذلك الوقت، حسب المجلة. أما العقد الأول للألفية الثالثة، فقد اتسعت فيه الفجوات واتضحت فيه مكامن الخطر على المجتمع، تحت عنوان "ماذا فعل طوفان العولمة بالأسرة العمانية؟!"؛ إذ كشفت هذه الدراسة عن ارتفاع ملحوظ في نسبة التعاطي والإدمان بين الشباب، والانحراف والسلوك العدواني، وزيادة نسبة الطلاق بين أفراد المجتمع العماني، وتراجع الاعتزاز بالهوية العربية، وكذلك ضعف العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة. ولعلنا نستشهد في هذه المرحلة بالتوجيه السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- الأسبوع الماضي، عندما أكد على الدور التربوي للوالدين لتوجيه الأجيال الصاعدة وعدم ترك تربية الأولاد لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت في مقام الأب الثالث للأطفال عبر العالم خاصة إنستجرام وتيك توك.

في الختام.. لا مفر لنا في هذه المرحلة من وضع استراتيجية إعلامية جديدة تختلف عن المنهج المتبع في قنواتنا المحلية، تقوم بالدرجة الأولى على إنتاج محتوى مرئي مميز يجذب الجمهور ويعبّر عن قيمنا الدينية الأصيلة وثقافتنا الإسلامية الخالدة، فنحن نعيش عصر الصورة بما تحمله من ألوان وحركات فنية تسُر الناظرين، كما إن فكرة احتواء رواد التواصل الاجتماعي وإقناعهم بالمساهمة في صنع مضامين تعبر عن الهوية الوطنية العمانية، أصبح من الضروريات، وقبل ذلك كله يجب الاستفادة من المؤسسات الاجتماعية والدينية بشكل فعّال، خاصة منابر المساجد والمدارس والجامعات، وذلك لتحصين الأطفال والشباب من الغزو الثقافي.