الحلانيات كوريا موريا.. ذاكرة مكان (2- 3)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

شدنا بالفعل هذا الجو المُنعش فتحدثنا فيه مع الشيخ الذي ابتسم وهو يروي طرفة عن ذلك، فقد زارهم الشيخ بريك بن حمود الغافري والي ظفار حينها، وبينما كانوا مندمجين في الحديث، فجأة التفت الوالي إلى الشيخ عبدالعزيز طالبًا منه إطفاء المكيف لشعورهم بالبرودة، أجابه الشيخ عبدالعزيز لا يُمكنني إطفاؤه، استهجن الوالي ذلك إلا أن الشيخ استرسل قائلاً : « يا شيخ أبا أحمد هذا هواء رباني فلا يُوجد عندنا بالجزيرة كلها أي جهاز تكييف». ابتسم الوالي قائلاً: « أنت إذن أسعد نائب والي حظ في عمان كلها ». منظر الغنم الوحشي على قمم المرتفعات لا تخطئه العين، إلا أنه على مسافات بعيدة ووعرة، وغالبا لا ينزل من المرتفعات إلا في ما ندر لتوحشه، ولا يمكن اصطياده بإطلاق النار عليه، لأنه إذا سمع دوي صوت الإطلاق يقفز فزعًا ويسقط بعضه إلى البحر، والطريقة الوحيدة لاصطياده هي مفاجأته في الوديان والإمساك به بالأيدي ليصبح غنيمة دسمة لهم. كان قائد المروحية قد سألنا عن المدة التي ستستغرقها مهمتنا، وعندما علم أنها لن تكون أقل من ست إلى سبع ساعات قال : « قد لا تكون الفرصة مواتية لكم للعودة إلى الجزيرة اليوم لانشغاله، وعليكم المبيت إلى الغد، فهو الموعد الأسبوعي لوصول طائرة ( السكاي فان) الأسبوعي إلى الجزيرة إلا للحالات الطارئة.

وبعد أن صلينا العصر اقترح علينا الشيخ عوفيت أخو الشيخ عبدالعزيز ومساعده في النيابة أن نذهب في جولة بحرية بالقارب حول جزيرة الحلانية، رحبنا بذلك واعتذر زميلنا علي وذهبت مع عامر برفقة اثنين من شباب الجزيرة. الطريق من المنطقة السكنية إلى البحر مستوية مع بعض كتل صخرية صغيرة مُتفرقة، وعلى يمين الرصيف البحري الصغير شاطئ رملي أبيض جميل ومكان يصف فيه الصيادون قواربهم أما تفريغ حمولاتهم الوفيرة من الصيد فيكون بملازمة الرصيف حيث ثلاجة التجميد بقربه، وعلى شمال الرصيف منطقة ولا أروع حيث، يتناوب على امتدادها الرمل الأبيض الناعم، وكتل صخرية صغيرة مُتفرقة، كما يوجد بعض هذه الصخور يشاهد من تحت الماء. ويمتاز البحر هناك بقلة عمقه قرب الشاطئ، بحيث لا يتجاوز المتر إلى المترين. ومع وضوح الرؤية يمكنك من خلاله مشاهدة أسماك القرش تتحرك، ورغم ما تُسببه رؤيتها من رعب إلا أنهم يقولون إنها غير مؤذية. وطبعًا لم نقتنع بكلامهم فقد يكون مسلكها هذا معهم من باب العشرة، وهذا ما لا ينطبق علينا. وأعتقد أنه يستحيل إقناع أحد بذلك من خارج الجزيرة.

ركبنا قارب الصيد الذي اتِّجه بنا يمينا بمحاذاة الجزيرة، البحر هادئ جدا في هذا الموسم بالذات في الجانب الشرقي من الجزيرة، عدا مويجات صغيرة ترتطم بما برز من حواف الجبل، وتتسلل بهدوء في ما غار فيه على شكل كهوف نحتتها عوامل الطبيعة مع الزمن مشكلة مناظر بديعة. وصلنا بمحاذاة (الخيصة)، وهي شاطئ رملي أبيض بين نتوءين جبليين وكانت المذرى الطبيعي قبل إنشاء الرصيف، كنا قد رأيناها من الشاطئ. هذه الخيصة كانت في الستينات محطة عبور اتخذتها القوات البريطانية أثناء خروجها السريع من عدن بعد جلائهم منها، فكانت السفن العسكرية الصغيرة والمتوسطة تنقلهم سريعاً إلى هناك حتى تأتي سفن أكبر لنقلهم. وقد كتب بعضهم ذكرياته ورسومات على جانبي النتوءين الجبليين.

ومن المُفارقات أن إذاعة عدن التي كانت تخصص في بداية السبعينات فترة بث يومي لمدة ساعة لما يسمى «ثورة تحرير عمان والخليج العربي» التي كانت عدن مقرًا للجنتها المركزية، تتداخل أحياناً على جهاز اللاسلكي (البرقية) الخاصة بمكتب نائب الوالي بالجزيرة، ويسمعونهم كلمات من قبيل "أنتم تتبعون عدن"، وغيرها. وكانت السلطات في السلطنة قد نبَّهت عليهم في الجزيرة بعدم الرد عليهم وإهمالهم، وهذه هي الحكمة والسياسة العُمانية منذ بدايات النهضة المباركة، أن لا تعير الترهات والحماقات بالًا أو اهتمامًا.

تحرك بنا القارب إلى حيث (خيصة) شواطئ رملية كبيرة حدثونا عنها، وبالفعل كانت تسلب الألباب، فمساحتها ليست بالقليلة طولا، برغم أن عرض الشاطئ من الماء إلى الجبل ليس كبيرا، وتحيط بها الجبال على شكل هلال، وبحرها مُعتم يوحي بعمق بعيد. يلفها الهدوء المكتسي مهابة وجلالا، ومناظر الحيتان الضخمة ؛ لا يكاد يختفي أحدها وسط الماء بعد أن يُثير زوبعة نافورة من المياه على سطح الماء حتى يظهر آخر أو أكثر، منظر يخلب الألباب ويحرك في النفس مشاعر لا تنتهي. رجعنا إلى حيث انطلقنا قبل أن يحل الظلام، وهناك على بعد أمتار قليلة من الرصيف البحري أوقف الشباب القارب وجهزوا لنا خيوط الصيد. وعن الصيد في الجزيرة يعجز التعبير، فقد كان في نهاية كل خيط ثلاث أو أربع سنارات، وفور أن ترميه تحت القارب تشعر بالأسماك تنهشه لتعلق به، حتى أنا نحن أصبحنا نسحب في كل مرة سمكة أو أكثر. وفي غضون ساعتين امتلأت الحيزات المخصصة للسمك في القارب بالكامل، بالطبع كان لمضيفينا النصيب الأكبر، وأصبحت لي حصيلة من الصيد لا بأس بها كوني ترعرعت على بحر الحافة أيضًا زميلي عامر كان له من الصيد نصيب، وهو لأول مرة يصيد في حياته، فهو ابن ريف وجبال.

في المساء قال لنا الشيخ عبدالعزيز: «خالاتكم تحبكم مثلما تقولون في صلالة»، قلنا له خير يا شيخ، قال اليوم سقطت غنمة جبلية وكسرت رجلها، فأمسك بها الأولاد وهي عشاؤكم اليوم. قلنا لا شك حب خالاتنا كبير لنحظى بلحم غنم الجزيرة الذي نسمع عنه ولم نره أو نذق طعمه، وطلبنا منهم رؤيته قبل الذبح، كان يشبه الغنم الظفاري ومذاقه لذيذ، إلا أنَّ لحمه صلب قليلا. سألناه عن قصة هذه الأغنام وتوحشها، قال: هذا سؤال يتكرر علينا دائماً ولا نعرف له جوابا محددا، لكنها موجودة منذ زمن أجدادنا. أعتقد أنهم جلبوها في مرحلة ما من سدح أو حاسك، وتاهت في الجبل وتوحشت وتكاثرت هناك.

بعد تناول العشاء، أوقد الشباب النار لتشعرنا ببعض الدفء، ووضع عليها إبريق كبير للشاي. وقد لاحظنا شغفهم بالشاي، وهذا أيضاً له قصة في الجزيرة كما لكل شيء قصة، فقد جنحت إحدى السفن وقذف البحر ببعض صناديقها الخشبية، فوقعت بين يدي سكان الجزيرة، وطبعًا كان القصد من هذه الغنيمة هو الصندوق الخشبي ذاته، فله ألف حاجة وحاجة لديهم في جزيرة وسط بحر مُحيط. وعند فتحهم للصندوق اكتشفوا هذه المادة سوداء اللون بداخلها، فتخلص الرجال منها، إلا أنَّ امرأة حصيفة بعد أن شمَّت نكهة الشاي الزكية قادها حدسها إلى أنَّ له فوائد لا شك دوائية أو غذائية، فغلت بعضا منه في الماء وذاقته، وأذاقت البقية وانتشر استعماله بينهم، على إبريق الشاي الكبير بدأت سوالف السمر، وقد كان لها شجون بين الطرفين.