د. عبدالله باحجاج
كان الله في عون جيلنا الجديد، لن يحسده، ولن يغبطه الجيل السابق؛ فهو يتأسس الآن على الوظائف المؤقتة، فكل من تسأله عن طبيعة عقده في الشركات الخاصة أو الشركات الحكومية/ العمومية.. الإجابة ستكون واحدة، وهي عقد مؤقت قابل للتجديد، ولن نستبعد أن تنشأ عقود بساعة عمل، أو عندما تكون الحاجة لساعات عمل، أتخيل هذا المشهد من الآن، ولن أستبعده أبدًا، وعندما أتعمق في تخيل صور المشهد، أرى شباباً يجلسون خلف أسوار الشركات، أو خارج الشركات انتظارًا لساعة عمل.
هذا المُتخيَّل له ما يُبرره لعدة أسباب موضوعية؛ منها: أنها قد وقعت فعلًا في إحدى الشركات الحكومية العمومية الكبرى في صلالة منذ عدة سنوات، وقد تناولته في أول مقال لي في الكتابة الصحفية تحت عنوان "الآثار الاجتماعية في تجربة الخصخصة العمانية"، وأخرى تكمن في طبيعة المرحلة الوطنية الراهنة التي تحكمها خطة مالية متوسطة الأجل، جُلّ تركيزها توفير الأموال بصورة أحادية ومجردة من أبعادها الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك عدم وجود ضمانات قانونية للأبعاد الاجتماعية في التحولات المالية والاقتصادية.
ودليل ذلك إلغاء الحد الأدنى للأجور، وفك ارتباط الراتب بالمؤهل في مرحلة يتم فيها فتح السوق العماني للاستثمارات الخارجية بعد إغلاقه طوال العقود الماضية. ومن الملاحظة اليقينية، أن هناك عدم وعي بالمآلات الاجتماعية والسياسية للحد الأدنى للأجور وفتح السوق العماني، وهذه سيكون لنا معها مقال مُستقل إن شاء الله.
لن نُنكر وجود بعض الأسباب الموضوعية لبعض العقود المؤقتة وليس كلها، كأن يتوظف الشاب على مشروع خاص أو عمومي له مدة زمنية مُؤقتة كسنتين مثلًا، ومن ثم ينتهي المشروع الذي أُسند للشركة، أما ما عداها، فلماذا الصفة الوقتية وطبيعة المشروع مُستدامة؟ فما الغاية من العقود المؤقتة، والصفة المستدامة قائمة؟ من المؤكد أنَّ وراءه سيكون استغلال من الطرف الأقوى، وهي الشركات، وهذا الاستغلال يَظهر لي هنا من عدة أوجه:
أولًا: الاستبداد، ونحصره في صورتين: قد تستخدمه الشركات كسلاح للترهيب والترغيب، وقد تستخدمه الشركات للتخلص من أصحاب المرتبات المرتفعة، فتتخلص منهم، وتوظف جددًا بالحد الأدنى للأجور عند 325 ريالًا.
ثانيًا: المواطنة الناقصة، ونحصرها في صورتين؛: 1) الشعور السيكولوجي للمواطن بضعف مركزه داخل وطنه في ظل سيطرة استثمارية مُتعددة الجنسيات. 2) تغيير منظومة الولاء من المسار الفوقي إلى المسار الرأسي.
وعندما أفكر في قضية العقود المؤقتة، أتساءل: كيف سيُخطط الشباب للزواج ولبناء مسكن... إلخ، وهم يفقدون الأمان في استدامة الوظائف؟ فلن يحصلوا على قروض من البنوك ما دامت عقود عملهم مُؤقتة، هذا لسان حال هذا الجيل، فهل هي قاعدة عامة أم لعدد ما؟ وما عددهم؟
هنا ندعو مؤسسات الدولة المعنية بالتطور الاجتماعي ومآلاته، وتحرص على ديمومة التوازنات الاجتماعية، وعلى قداسة العلاقة التاريخية بين القمة والقاعدة، إلى دراسة هذا الملف دراسة سياسية وأمنية عميقة، ونقترح عليها أن تأخذ بعين الاعتبار المُعطيات التالية:
* نسبة العقود المؤقتة من مجموع 40 ألف فرصة عمل، تقول وزارة العمل إنها قد وفرتها للباحثين عن عمل؟
* وكذلك مثيلتها قبل توظيف ذلك العدد في ظل وجود شركات توظيف خاصة، تقطع من مرتبات الموظفين قرابة النصف وقد تناولتُ هذه القضية في عدة مقالات، وهي ما زالت مستمرة حتى الآن، ويبدو أن وراءها احتكار قوى النفوذ.
* تحليل نسبة الأجور في البلاد بعد تخفيض الرواتب وإحالة الآلاف إلى التقاعد.
* تأثير السياسة المالية الجديدة (الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي) على مستقبل التوازنات الاجتماعية.
* جنسية الاستثمارات الجديدة في بلادنا، وأجنداتها المحتملة والمختلفة التي قد تستغل البيئة الاجتماعية العمانية الجديدة.
* الضيوف الجدد لمنطقة الخليج العربي، والتحولات الفكرية التي سيشعلونها.
* دراسة مستقبل العلاقة السياسية بين الحكومة والمجتمع.
* طبيعة المجتمع الجديد الذي ستنتجه كل تلكم العوامل.
وهنا التساؤل: ماذا ستكون النتيجة بعد دراسة وتحليل كل تلكم العوامل؟
المهتمون والمطلعون على الوقائع والمُعطيات الميدانية بخلفياتها التاريخية، وإحداثياتها المعاصرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، سيتمكنون بقليل من التَّعمق من تحديد الملامح العامة لهذه النتيجة، لكن الدراسة ستخرج لنا النتيجة باستنطاق الأرقام التي تبنى عليها القرارات والسياسات والاستراتيجيات.
وأخيرًا.. ينبغي التأكيد على بديهية مُهمة جدًا، وهي أن السياسات المالية، تستهدف مجتمعًا تفاعليًا في مرحلة انفتاح السوق العُماني عن طريق الاستثمارات بصورة غير مسبوقة، وهذا المسار الأخير، يلقي بظلاله على الوظائف المُؤقتة من جهة، وتداعياتها من جهة ثانية، والتي سيكون أبرز ملامحها فقدان الأمان الوظيفي، والقلق على المُستقبل.
فهل يُمكن أن يُستغل هذا الوضع من قبل أصحاب الأجندات السياسية والفكرية؟ حيث إن كل من معه مثل هذه الأجندات، سيجد البيئات الداخلية مواتية لتحقيقها. ومن هنا، نفتح هذا الملف لإعادة النظر في السياسات الاجتماعية بالدولة؛ إذ إنَّ أنشطتها والكثير من قوانينها تنتج فقدان الأمان للمواطنين.. مما سيجعلهم تحت مجموعة ضغوط يذهبون في مسارات قد لا تخدم مرحلتنا الوطنية الجديدة.