د. مجدي العفيفي
(13)
في سياق تأصيل الجذور السياسة للمرأة العمانية عبر ثلاثية الزمان والمكان والإنسان، نذكر السيدة سالمة (1845- 1922) ابنة السيد سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنجبار من 1804 إلى 1856، وهو حفيد الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الأسرة الحاكمة في عُمان.
نشرت السيدة سالمة مذكراتها لأول مرة باللغة الألمانية في برلين عام 1886 وترجمها عبد المجيد القيسي إلى اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية، لتصدرها وزارة التراث القومي والثقافة في مسقط عام 1983بعنوان "مذكرات أميرة عربية". (7) سالمة بنت سعيد بن سلطان، مذكرات أميرة عربية، وزارة التراث القومي والثقافة.
تتواصل السيدة سالمة بسيرتها ودورها، مع جدتها السيدة موزة بنت الإمام أحمد، ذات الدور البارز فى صيانة وحدة الأسرة، عقب وفاة السيد سلطان، وتتواصل أيضاً مع السيدة جوخة بنت محمد بن الإمام بدورها المعروف.
(14)
والسيدة سالمة أميرة شرقية عربية وابنة سلطان، خرجت قبل أكثر من مائة عام على تقاليد قومها، وتزوجت شابا ألمانيا، وهجرت من أجله وطنها ومُلك أبيها، وتركت حياة العز والقصور؛ لتطوح بها الأقدار في ديار الغربة بين لندن وبرلين، وتستبدل حياة الاختلاط والسفور في أوروبا بحياة الحريم والحجاب في الشرق، وباسمها العربي السيدة سالمة بنت سعيد اسما أعجميًا هو البرنسيس إميلي روث، ثم تضيق بها الحياة بعد عشرين عامًا أو تضيق هي ذرعاً بالحياة الأوروبية فتحن إلى الرجوع إلى وطنها الأول، ولكن أبواب العودة تغلق في وجهها، فتعكف تكتب باللغة الألمانية قصة حياتها وتجاربها، وتستعيد ذكريات بلادها وبني قومها.
تقول عن مذكراتها: "كنت قد قررت كتابتها ليقرأها من بعدى أولادي حين يكبرون، فلم يكونوا في ذلك الوقت في سن تسمح لهم أن يعرفوا شيئا عن ماضي حياتي وأصل منبتي وعن وطني زنجبار وقومي العرب، وكنت في حال من الوهن والسقم والإرهاق، لم أكن أتصور معها بقائي على قيد الحياة أمرا يكفي لأن أروي لهم بنفسي سيرة حياتي".
(15)
وتتبدى أهمية مذكرات السيدة سالمة في ثلاثة مسارات متشابكة:
مسار سياسي..
وآخر اجتماعي..
وثالث أدبي..
فهي تكشف عن جوانب هامة في الحياة السياسية والاجتماعية في زنجبار في القرن التاسع عشر، فضلا عن أنها تقدم صورة عن الحياة الداخلية للقصر السلطاني، لا يستطيع المؤرخ العادي أن يصل إليها.
وإذا كان المترجم عبد المجيد القيسي يقول إنه لا يعرف نظيرًا للسيدة سالمة، إلا الشريفة مصباح حيدر التي كتبت في مذكراتها عن الحياة في بيوت شرفاء مكة المكرمة في استنبول في مطلع هذا القرن، فإنَّ أن وجود السيدة سالمة في بلد غربي، ربما هو الذي شجعها على كتابة مثل هذه المذكرات التي لا بد وأنها قرأت مثيلات لها في الأدب الغربي.
ويقول المترجم إنه مما يزيد في أهمية ما تضمنته هذه المذكرات أن مسرح أحداثها زنجبار، ذلك البلد الذي قل منا من يعرف من أخباره شيئا، وقل من يعرف أن هذا البلد ظل عربيا حتى عام 1964؛ حيث فقدناه في مأساة دامية أضيفت إلى مآسي العروبة في الأندلس وإسكندرونة وفلسطين، بل وأكثر من هذا فإن علمنا بتاريخ عمان، التي كانت زنجبار جزءا منها بل شبه عاصمة لها يوما ما، ظل سطحياً حتى الأعوام الأخيرة حين خرجت عُمان من عزلتها وعاد اتصالها بالعالم.
(16)
وقد صورت السيدة سالمة، الملامح الاجتماعية لتلك الفترة في أسلوب فني بديع، حيث لم تكن مجرد امرأة عادية، بل كانت نوعا من النساء يلقي نفسه في الدوامة ثم يستعذب الكفاح، وكتبت الأميرة سالمة كتابها دفاعًا عن نفسها حين اضطرت تحت تأثير ظروف معينة إلى هجرة الوطن والعيش في ألمانيا، ولذلك فهي في كتابها «تذكر دائما قارئها الأجنبي أنها مسلمة عربية شرقية لها تقاليدها التي تعتز بها، ولها دينها الذي تؤمن به، ولها ناسها الذين لا يقلون عن الناس والأهل في كل مكان، إنسانية ومدنية وحرية وكرامة وثقافة وحضارة.
إنه ذلك التشبث الكامل بالأصل والعراقة وبضرورة أن يستمر النهر فى مجراه، فلا يخرج الأبناء الذين فرضت الحياة بعدهم عن منبتهم، وهم لا يعرفون حقيقة منبتهم وأصلهم، وهو في نفس الوقت دفاع حار عن امرأة تحس أنها أساءت إلى أولادها وإلى نفسها، يريد أن يجلو الحقيقة من منظورها هي، وأن يجعل لكل فعل ما يبرره، عسى أن تفهم بعض العقول، وعسى أن تحس بعض القلوب فتغفر وتنسى، وتعرف أن الرياح التى تقاذفت السفينة كانت هوجاء عاتية قذفت بها إلى عالم آخر غريب، وحين حاول النازح أن يعود عادت، فقذفت به من جديد إلى التيه، وخروجا من التيه كانت كلمات هذا الكتاب.
(17)
نحن بالفعل أمام "سيرة ذاتية لها موقف مسبق واضح، فالسيرة هنا لا تروى لمجرد الرصد التاريخي، وانما هى سيرة كتبت للدفاع عن صاحبتها، ولجلاء أمور فى حياتها تريد الكاتبة أن تبرزها فى وضوح وجلاء، ومع هذا الموقف المسبق من الأحداث، حس امرأة مرهفة المشاعر تحب فتضحي بلقبها وأرضها ودينها وناسها من أجل من تحب، وتكره فتشترك في مؤامرة لتغيير الحاكم، وتدس أنفها في أمور الحكم، وتنحاز إلى جانب دون جانب في صراع أخويها من أجل الوصول إلى كرسي الحكم، ثم تندفع محاولة العودة،رغم معرفتها المسبقة بعدم جدوى هذه العودة، ثم تعود لتعيش صراعا عنيفا في المطالبة بميراثها من السلطان مرة، ومن الألمان مرة، ومن الإنجليز مرة، لا تهدأ ولا تستقر".
(18)
وهكذا.. لم تكن السيدة سالمة مجرد امرأة عادية، وإنما صنف مميز من النساء يلقي نفسه في الدوامة ثم يستعذب الكفاح اليائس الذي لا أمل له ولا جدوى منه منذ البداية، هي نموذج واضح للمرأة الشرقية التي تتمرد على دورها المحدود في الحياة فتلعبه بكل ما لديها من ذكاء وحيلة وقوة لتؤكد أنها صاحبة مكان وصاحبة دور فعال، وأن مسألة عزلها عن المشاركة في الحياة العامة مسألة هزلية مغلوطة لا قيمة لها في الممارسة الحقيقية للحياة.