ناصر أبو عون
بعد أن دشن الشاعر الشيخ حمد بن عيسى الطائي "شركة الفيحاء التجارية"، سعى حثيثًا إلى الارتقاء بها، وزيادة رساميلها، وتطوير آليات العمل الإداري في بنيتها التحتية وِفقَ أفضل مناهج إدارة الشركات العالمية لتصبح بعد بضع سنوات إحدى أقوى المجموعات التجارية في سلطنة عُمان.
وفي مقابلة مع أسامة شتا- الذي عمل لدى المرحوم سنوات طويلة- لمعتْ في عينيه دموع المفارقة، وعَدَّدَ من أخلاق الشيخ ما تنوءُ به عُصبة الحِكايات عن حمله؛ فقال وجدتُ فيه رجلا لم تُبطره النعمة السابغة، يعطي القانع فلا يَمُن، ويمنح المُعترّ ولا يَضِن، ويسامر المعوز حتى لا تقصر به الغفلة، ولا يُصعّر خده للنَّاس؛ ضحوكًا بسومًا مع أسافل الناس وسادتهم، ويمازح العلماء وخاصتهم، وله مُطارحات شعرية، وفكاهات كلامية ضجّت بها المجالس استبشارًا، يأنس بها كلّ ذي لُبِ أريب، ويَعزُب عنها كلُّ هيّاب كئيب.
كان رجلا يألفُ ويُؤلَف، لا يلّجُّ في الخصومة، وينبو عن مواضع الزَّلل، ويهجر مواطن الشِّقاق والنِّفاق، وإذا أوقعته حبائل الشيطان في أشراكها انسلّ من مخالبها، وصَرَمَ آصَارَ شِباكها، ونَشِطَ من عقالِ استكانتها، وأفاء إلى الحِلم غير مثلوم ولا آيس. فلما درّت له السماء، وفكّت وِكاءَ قِرابها، وضحكت له الدنيا، طفق يخصف على الفقراء والمعوزين من عطاء الله، لا يخشى الإملاق، عاملا ليوم التلاق، يصير التراب بين يديه ذهبا، وإذا عزم على أمرٍ رأيت منه عجبا.
عشق الشيخ حمد الأسفار، وطوّحت به قدماه في كثير من الأقطار، لا تفتر عزيمته، ولا تقعد همّته عن الجمع بين العمل والإجمام فتنقل بين قارات العالم، وله أشعار توثّق رحلاته، يعدد فيها السمات والصفات، ويمازح أهلها، ويطارح رفقاءه الأفكار ويؤانس أصدقاءه بمزاح لا يخالطه تهتك ولا مزايدة. ونظم خلالها الكثير من القصائد المثقلة بالحنين إلى وطنه وأهله، ووصف فيها عجائب التقدّم الحضاري في الكثير من الأقطار التي زراها، وحلّ سائحا بين أهلها.
كان يرى في السفر حيوات متعددة، تغني العقل بكل جديد، وتصقل الخبرات، وتوسّع المدارك، وتفتح الأبواب المغلقة؛ وأبانت أشعاره عن مكانة خاصة للعديد من البلدان فسافر إلى جمهورية اليونان، وبدا إعجابه بحضارتها، والاستئناس بأهلها وابتاع لنفسه منزلا فيها لمتابعة قضاياه مع شركة النقل البحري المسؤولة عن توريد شحنات الأسمنت إلى سلطنة عُمان، وتنقل ما بين جزرها وخاض في لُجّة العاصمة أثينا، ووقف يناجي الطبيعة فوق "الأكروبوليس"، وساح ما بين شوارع "حي بلاكا التاريخي" أسفل جبل الأكروبوليس، وتفحّص مقرنصات فنون العمارة الكلاسيكية، وزار متاحفها، واستظل تحت أعمدة معبد زيوس الأولمبي.
ووصل إلى بروكسل، وجمهورية ألمانيا الغربية (آنذاك) ممثلا للسلطنة مع وفد غرفة تجارة وصناعة عمان، والذي جمع أساطين الاستثمار والتجار في هذه الحقبة التأسيسية من عصر النهضة المباركة وهم أعلام في أقوامهم، ونجوم زاهرة في عالم التجارة والصناعة، وأذرع للعلاقات الدولية نذكر منهم بجانب الشيخ حمد الطائيّ، أحد عشر وجيهًا وهم: سهيل بهوان، وعلي سلطان، وسعيد الكلباني، ود. حمد الريامي، ومحمد الجمالي، وسعيد وخميس الحشار، وأحمد المرهون، وأفلح الرواحي، وسليمان الحوقاني، وأحمد بن عمير.
وقد وَثَّقَ الشيخ حمد الطائيّ هذه الرحلات في قصائد تدخل تحت فن أدبي مزدهر عربياً ذاع صيته منذ القِدم؛ وهو "أدب الرحلات" استجلى في نصوصه المعالم الحضارية للعواصم الأوربية التي نزل بها بغية العمل أو العلاج، ووصف قلاعها الصناعية، وأرّخ زياراته إلى مصانع الطائرات والسيارات والمعدات الثقيلة. ونشير في هذا المقام على سبيل المثال لا الحصر أهم مقطوعاته الشعرية، ومنها مقطوعته "همسة" التي أرسلها من جنيف عاصمة سويسرا عام 1983م يبثّ فيها شجونه وحنينه حينما كان مسافرا بصحبة وفد غرفة تجارة وصناعة عمان؛ يقول في مطلعها: "بين البحيرات وماء النهر// وبين واحات الجبال الخضر"، ومن عاصمة ألمانيا الغربية "بون"، كان برفقة وفد حكومي بدأ مقطوعته الشعرية بشكوى الوحدة والاغتراب قائلا: "هذا أنا في "بون" أشكو وحدتي"، وله قصائد كُثرُ في الحنين إلى عُمان وأهله بثّ فيها شكواه وشغفه من كوبنهاجن عاصمة الدنمارك في 22/ 9/ 1985م، ونظم قصيدة تأريخية عن زيارته لمصنع "فوكر" للطائرات بتاريخ 22/ 8/ 1986م، وفي طريقه إلى زيورخ كتب مقطوعة تنزُّ إعجابا بشركة طيران الخليج، بعنوان "ضربة الفأس" بتاريخ 8/ 9/ 1986م، وثنَّى عليها بمقطوعة شعرية بعنوان: "وصفة الدكتور" كتبها بتاريخ 12/ 9/ 1986م، ولم تمض سوى ليلة واحدة حتى حلَّق طائرة إلى سويسرا ونزل بمنتجع "فيللار" وكتب قصيدة أخرى بتاريخ 14/ 9/ 1986م.
وقادته الخطى إلى مصر "أم الدنيا" فعشق فيها قوميتها وانبهر بمواقفها السياسية، واستلهم تاريخها، واستأنس بأهلها، واستهام بشاعر النيل حافظ إبراهيم، واستنام في روضة أمير الشعراء أحمد شوقي، وافتتن بشعره وتنسّم في ظلال قصائده روح التسامح الإسلامي، واقتطف أطيب الثمار من بلاغته الشعرية، واستأنس في دوحة صوره الشعرية ما يحفظ للقصيدة نضارتها وبهاءها.
ولأن أنفاس المرء ليست إلا خُطاه إلى أجله، فقد نقض قدرُ الأملِ مع الشيخ حمد الطائي بعهده، وأوقدت سَوْرَة المرض شعلتها في جسده، وقَدَّتْ نيرانُ الأوجاع من دُبُرٍ قميصَ راحته، ووكزته الآلام في الحشا فاصطبر عليها، ووِقَمَه الوهن في روحه، وحمشت ذبالة ثورتها في هدأة نفسه الراضية، وفي النصف الأول عقد تسعينيات القرن العشرين شدّ الرحال إلى الغرب طلبا للعلاج فترددت خطواته ما بين بريطانيا وأمريكا، واستقرّت به الحال في مستشفى "مايو كلينيك" الأمريكية، وقد جمعت الأقدار بينه وبين العاهل الأردنيّ الملك حسين فتقاسما شطر الأدواء نفسها، وتعاهدا مواضع الداء ذاتها، فلمّا استرد الخالق وديعته من الملك الهاشميّ، واخترم حمام الموت حبل وصله ومودته، رثاه الشيخُ وعدد محاسنه وافتقد صُحبته، وبكى فراقه مودته،
غير أنَّ ليل الفناء قد أرخى سدوله، وأنَّ الرحيل الحاتم لا مفر من وقوعه، وما الأوجاع النائرة إلا رُسُل المنايا التي تنزل بدار المرء مهطعة كاللمح الباصر، فتنكّل به، ولا تتركه حتى يتقشّع جنبه، ولا تجافيه حتى تقرّ عينه، ولا تغادره حتى يعيا الطبيب في مداوته؛ إلا أن الشيخ كان رابط الجأش يروح ويجيء بين موظفيه، لا يُظهر تبرمًا، ولا يُبدي وجلا، ولا يشكو نَصَبًا، حتى قضى نحبه، واستردَّ الله وديعته على مشارف نهاية الألفية الثانية في اليوم الثاني من شهر مارس عام تسعة وتسعين بعد تسعمائة وألف من الميلاد؛ يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ذي القعدة في العام التاسع عشر بعد أربعمائة وألف من الهجرة.
يقول العارفون: «فمن شاء الأثر قدَّم له المسير، والمسير الذي يُذكَر ويؤثّر ويرتفع حقاً ولو لم نشهده عياناً»، والشيخ حمد الطائيّ كان له خبيئة مع الله، لا يطلع عليها ذوي القربى، وإن خبرها بعض الخواص، فقد حسنت طويته، وازدانت سيرته، وشهد له المقربون من غير أهله بأنَّه كان يعطي من مال الله الذي آتاه عطاء من لا يخشى مغبّة الفقر، وعندما يستفيض إليه المعوزين لا يزع يده حتى ينصرفوا راضين، ويصبر على العمال الكادحين وإن تمادوا في أغلاطهم وكان شعاره "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، وكان من علامات حسن خاتمته أن صلّى عليه جمع غفير وتطاولت الصفوف، وتضامت الأكتاف، وتعددت الأجناس والأعراق خلف العلامة التقيّ الشيخ أحمد الخليلي مُفتي عام سلطنة عُمان في صلاة الجنازة عليه، وغشيت الموقف الرحمة والسكينة، بمقبرة العائلة في بوشر، وهطلت الأمطار مشوبة بنسمات الهواء العليل واستمرت لأيام ثلاثة؛ مصداقًا لما ثبت في كتاب "سير أعلام النبلاء 21/156": «أنه متى مات مَنْ له مَنْزِلة عند الله فإنَّ الله يبعث سحاباً يوم موته علامة للمغفرة له، ولمن صلى عليه»، وجاء في باب علامات حسن الخاتمة «لمّا مات أبو موسى المديني لم يكادوا أن يفرغوا منه، حتى جاء مطر عظيم في الحر الشديد وكان الماء قليلاً بأصبهان فما انفصل أحد عن المكان مع كثرة الخلق إلا قليلا».
رحم الله الشيخ حمد بن عيسى الطائي، وطيّب ثراه، ووسّع مدخله، وطوى له الصراط فاجتازه إلى النعيم والجنات.