الوحدة العربية في عصر نهضتها الحديثة إلى أين؟! (2)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

أشرنا في الجزء الأوَّل من هذا المقال إلى أنَّ دول أوروبا عندما تولدت لديها فكرة مشروع الاتحاد فيما بينها بعد مخاض سريع، لم تكن تمتلك إلا النزر اليسير من مقومات هذا الاتحاد مقارنة بالدول العربية التي لديها كل المقومات، لذلك قام ذلك الاتحاد بدون اكتمال أركانه، وما كان يقود هذه الدول لهذا الاتحاد هو فقط الخوف من عدم العودة مجددًا لما حصل بين بعضها من حروب طاحنة، إضافة بطبيعة الحال إلى هاجس الأمن من الاستعمار السوفيتي المتوقع بينما بالمُقابل يمتلك العرب كل المقومات ليس لقيام اتحاد طبيعي فيما بينها بل الوصول إلى الوحدة العربية الكاملة.

لذا وبعد خروج المملكة المتحدة رسميا من الاتحاد الأوروبي مؤخرا بعد حياة مشتركة لمدة نصف قرن سادها اضطراب لا يخفى على المراقب وتصريح رئيس وزرائها آنذاك وفي التوقيت واليوم الذي تحدد رسميًا لخروجها وفي تمام الساعة 23,00 بالتوقيت المحلي وتوقيت غرينتش ووصفه لها بأنها "لحظة رائعة" خير دليل على ما نقول.

صفقة الغواصات الفرنسية الأخيرة بدورها أدت إلى شرخ كبير بين فرنسا والاتحاد الأوروبي من جهة وبينها وبين أمريكا، وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد هدد بخروح فرنسا من الحلف مجددا للمرة الثانية، ثم إن انسحاب أمريكا المفاجئ من أفغانستان بدون استشارة أو حتى علم الحلفاء الأوربيين زاد من هذا الشرخ اتساعاً بين الأوربيين أنفسهم وبينهم وحليفتهم الكبرى أمريكا، وقد أشارت صحيفة تاغسشبيغل حينها في 20 من سبتمبر 2021 أن حلف الناتو قد عفا عليه الزمن وتساءلت ما إذا كان يواجه "موتا دماغيا".

حلف الناتو وإن كان فكرة أوروبية دعت إليه بدايات فترة الحرب الباردة لحماية أوروبا إلا أنه لم يتأسس رسميًا ويوقع عليه في الولايات المتحدة في عام 1949 إلا بدخول أمريكا كقوة عظمى فيه وكان الهدف الرئيس منه منع أي احتلال سوفيتى مستقبلا لهذه الدول، لذا يلاحظ في الآونة الأخيرة ومع بروز التخوف من غزو روسي لأوكرانيا تزايدت وتيرة التقارب بين أمريكا ودول الاتحاد متناسين كل خلافات سابقة بالرغم من تشكل بعض المصالح المشتركة بين روسيا وبعض الدول الأوربية كموضوع خط الغاز الروسي إلى ألمانيا (نورد ستريم 2).

إن قيام خلافة عربية إسلامية في الأندلس وبين ظهرانيهم في أوروبا نفسها كانت التي قصمت ظهر البعير، وتولدت لديهم قناعة حينها بأن الخطر قادم من هنا، لذلك كان الاستعمار البرتغالي وبالرغم مما روج لأسبابه إلا أنه كان انتقاما ويهدف للقضاء على أية خلافة إسلامية مستقبلا من منبتها وفي عقر دارها وإن كان هذا الدار واهناً آنذاك ولذلك لم يرحم هذا الاستعمار الممالك العربية التي مرَّ بها وقضوا على النسل والضرع والزرع فيها لولا أن قيض الله رجالا من عمان لصد ودحر هذا الغزو والاستعمار الأوروبي الأول واليوم البرتغال أصبح مصيرها مغموراً ومن أفقر الدول الأوربية بعد اليونان.

كلها أمور لا تحتاج إلى إمعان النظر منِّا كثيرًا لليقظة والاستفادة من التاريخ حتى أصبحوا ينعتوننا كعرب بقصر الذاكرة ونحن أربابها، علينا التيقن اليوم بأن مالديهم واهن ونحن أولى بالاستفادة منه وقيامه بيننا وهو زائل لديهم لامحالة طال الزمن أم قصر فما بني على وهن فهو واهن، وإننا كعالم عربي مهما نشاهده اليوم من تشرذم بيننا وفي دولنا إلا أنه كان متوقعاً ولم يكن بخافٍ علينا أنهم قد خططوا لتنفيذه منذ أمد وإننا كنَّا مستقصدين فلا تقذف إلا الأشجار المثمرة وغيرها تترك، إنه صراع حضارات، وما القضاء على بغداد لتحييدها عن الجسد العربي وشل دمشق لنفس الغرض إلا بداية المشوار في مخططهم لكونها ثغور عربية كانت وستعود بإذن الله ومراكز ثقل تاريخي وحاضر للعروبة فأكملوا أسلوب التتار وهولاكو عليها مع الفارق، كل شيء كان مخططاً له منذ أمد بعيد وإن لم يكن محددا متى وكيف سيكون.

الآن وقد وقع الفأس في الرأس وتداعت وتتداعى أجزاء من وطننا العربي الكبير، هل نيأس ونتباكى على حالنا وماضينا ونندب حاضرنا ونحن نشكل عالماً متكاملاً كيفاً وكماً قائماً بذاته، وأصحاب رسالة إلاهية، الجواب هو كلا وألف كلا وهذا ما يجب أن نرضعه أطفالنا مع حليب الأمهات ونلتم على قضيتنا الأساسية فلسطين والقدس بعد هجر بغيض منِّا بل هناك من باع واشترى عليها، أجزم أننا سنتناسى اليوم كل مشاكلنا الجانبية لو استدعى الأمر هبة التفاف حول القدس، نعم فلا زلنا بألف خير، خصوصا وأن النهضة الحديثة أصبحنا نمتلك منها ما لا يقل عما يمتلكونه ويمتلكه الآخرون وأصبحت معظم دولنا إذا لم يكن كلها على عكس ما كانت عليه سابقًا فاعلة وقوية ومواكبة للعصر ولا زالت مقوماتنا الأساسية للاتحاد والوحدة هي عماد قوتنا وثوابتنا للانطلاق من جديد فما لا يقضي عليك يقويك.