القمم الخليجية بين واقع التحديات وطموحات المواطن

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

انطلقت في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية القمة الثانية والأربعين للمجلس الأعلى لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، هذه العاصمة الشامخة بقيادتها الحكيمة التي عرف عنها توحيد الصفوف وجمع الشمل تحت مظلة الخليج الواحد الموحد بكامل أعضائه الست؛ والتي تحتضن مقر الأمانة العامة للمجلس منذ تأسيس هذا التجمع المبارك عام 1981 في أبوظبي.

وتأتي هذه القمة وسط تحديات غير مسبوقة تواجه أمن المنطقة بداية بحرب اليمن، وكذلك الملف النووي الإيراني الذي تتولى الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التفاوض مع الحكومة الإيرانية حول سلمية هذا البرنامج، وسط مخاوف من أي خلل أو انفجار- لا سمح الله- في المواقع النووية على الضفة الشرقية للخليج العربي؛ حيث تتواجد 15 محطة أو مفاعلا نوويًا في مختلف أنحاء الجمهورية الإسلامية، وذلك في إطار غياب أو تغيب متعمد لحضور مندوب يمثل مجلس التعاون الخليجي الذي يفترض أن يطلع على تلك المحادثات التي يشارك فيها الاتحاد الأوربي وأمريكا بحضور روسي وصيني في العاصمة النمساوية فيينا، على الرغم من بعد تلك الدول جغرافيا عن المنطقة.

ولعل أمن الملاحة في الخليج العربي وبحر عمان والبحر الأحمر من أهم التحديات التي تواجه أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقراها حاليا، وهو موضوع للنقاش في قمة الرياض؛ إذ شهدت هذه البحار والمضائق خاصة بحر عمان ومضيق هرمز ما يعرف بـ"حرب الناقلات السرية" منذ 2019 وحتى هذه الساعة؛ إذ تم اختطاف أو إحداث تفجيرات بعدد من السفن التي تحمل أعلام دول مختلفة، مما ترتب على ذلك ارتفاع أسعار التأمين على السفن وتجنب بعض الشركات التي تملك اساطيل من السفن التجارية المرور في تلك المناطق والعبور بموانئ هذه المنطقة. كما إن الهجمات الإرهابية على منشآت شركة أرامكو في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية الشقيقة في سبتمبر 2019 كشف بوضوح عن خطورة التهديدات الخارجية التي تواجه دول المجلس؛ مما يفرض علينا جميعا التكاتف والتعاضد في الدفاع عن الأمن الجماعي لشعوبنا. فالدول الكبرى التي تزعم أنها أتت لحماية الخليج فشلت في القيام بواجبها الدفاعي كما تزعم، وكذلك الالتزام بالاتفاقات الأمنية التي تربطها بدول الخليج بشكل ثنائي او جماعي وعلى وجه الخصوص أمريكا وبريطانيا اللتان لهما مصالح وامتيازات تجارية ومالية مقابل الحماية المزعومة. فالحقيقة الغائبة عن البعض هي أن أبناء الخليج هم الذين سوف يدافعون عن ترابه المقدس وليس الدول الكبرى، والتي لا يهمها إلا مصالحها الخاصة وما تستنزفه من أموال وثروات الدول النفطية الخليجية منذ تصدير النفط الخليجي في منتصف العقد الماضي وحتى الآن. ولعنا نتذكر جميعا إدارة ظهر هذه الدول لكثير من الأنظمة والحكام عند ما تحين ساعة الحقيقة؛ كما حصل مع شاه ايران عام 1979؛ إذ رفضت الولايات المتحدة الأمريكية دخوله أراضيها عند هروبه طالبا اللجوء السياسي من اقرب الحلفاء.

يجب الاعتراف أن مسيرة مجلس التعاون الخليجي لم تكن مفروشة بالورود في كل الوقات، بل كانت هناك تحديات كادت تعصف بل وتهدم البيت الخليجي، الذي أسسه جيل الرواد من القادة العظام الذين رحلوا جميعا عن عالمنا، فالخلاف بين دولة قطر وبعض دول الأعضاء كالسعودية والامارات والبحرين كان سابقة خطيرة والتحدي الأكبر الذي واجه المجلس منذ تأسيسه على الاطلاق، ولكن كانت الجهود الخيرة التي قادتها سلطنة عمان والكويت لتقارب وجهات نظر قادة المجلس ومحاولة المحافظة على البيت الخليجي الذي يحتضن الجميع، ثم كان لقيادة المملكة العربية السعودية الدور الأبرز في "قمة العلا" العام الماضي بإغلاق ملفات الخلافات وفتح صفحة مشرقة جديدة بين شعوب المنطقة. ونجحت دول المجلس مجتمعة في استعادة دولة الكويت من الاحتلال العراقي في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وكذلك تمكنت قوة طلائع درع الجزيرة من إعادة الأمن والاستقرار لمملكة البحرين الشقيقة عند تعرضها لتهديد أمنها القومي في مطلع العقد الماضي.

لا شك أن طموحات أبناء الخليج ما زالت بعيدة المنال حتى هذه اللحظة، على الرغم من مرور اكثر من 4 عقود على مسيرة مجلس التعاون، فقد توقفت الكثير من المشاريع العملاقة التي يطمح إلى تحقيقها المواطن الخليجي العادي الذي يتطلع في كل قمة خليجية إلى المزيد من الاندماج والوحدة الخليجية. إن وحدة الخليج أصبحت مطلبًا ضروريًا في المرحلة المقبلة، ومن مقومات وأركان هذه الوحدة توحيد الجيوش الخليجية تحت قيادة واحدة، وكذلك التعجيل بفتح الحدود بين منافذ دول المجلس، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي، وتوافق بين قادة المجلس على تأسيس بنك مركزي خليجي لتوحيد العملة المقترحة منذ عدة سنوات؛ وقبل ذلك كله توحيد الحقوق والواجبات بين أبناء المجلس وعلى وجه الخصوص حق العمل والإقامة للمواطن الخليجي في مختلف دول المجلس دون تمييز.

الأنظار اليوم تتجه إلى الرياض لجمع شمل الاشقاء وتوحيد الصفوف، فهذه القمة تختلف عن القمم الأخرى لكونها تنعقد بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ووزير الدفاع في المملكة العربية السعودية إلى كل العواصم الخليجية الخمس؛ حيث كان الملف الاقتصادي العنوان الابراز لهذه الزيارة التي تمخضت عن استثمارات واتفاقيات ثنائية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات الأمريكية في كل المحطات الخليجية.

فهل يمكن أن يصلح الاقتصاد ما عجزت عنه السياسة طوال العقود الماضية؟ هذا ما يمكن معرفته بعد الاجتماع من خلال نتائج القمة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري