د. عبدالله باحجاج
المشهدان هُما: الأول: امرأة كبيرة في السن تبيع الخبز المحلي "الرقيق" على شارع رئيسي في منطقة السعادة بولاية صلالة، تتخذ من ظل شجرة على الشارع مقرًا لها يوميًا، من الصباح إلى المساء، وفي أجواء غير صحية، كحرارة الشمس المُرتفعة وقت الظهيرة، والأتربة بسبب المكان الذي تبيع فيه، أو في هذا الفصل الذي ينفجر فيه "بوخريقة أو السقريت"؛ وهي مسميات محلية تطلق على رياح شمالية نشطة مُثيرة للأتربة والرمال، والشارع يعج بالسيارات على مدار الساعة، والمرأة قابعة فوق كرسي خشبي وأمامها طاولة صغيرة، تضع فوقها أكياس الخبز، وكل كيس بريال عُماني.
المشهد الثاني: يُقابل مشهد المرأة، مقر مبنى كبير وجميل، يتصدر واجهته على هذا الشارع لافتة مكتوب عليها "هيئة حماية المُستهلك بمحافظة ظفار"، ومن أهم أهدافها حفظ حقوق المستهلك. وما بين هذه الحقوق الأخيرة، وبين أهم حقوق الإنسانية الأساسية، والتي تمثله المرأة في بيئة عملها القاسية، وأمام مقر حماية المستهلك، يكمن التعارض الصارخ في المكان الواحد، والزمان المشترك.
مشهدان مُثيران بحقٍ، وهما رسالة لمن يُعمل فكره في فهم المتلاقيات والمتعارضات التي قد تعترضه في الحياة اليومية، فكم من شخص مرَّ على المشهدين وخرج منهما وكأنه لم يرهما. قد لا نلقي اللوم على العامة، فهم في فكر منشغل بهم خاص أو استثنائي يشل وجوده الآني أينما يذهب، كمرضٍ ذاتي أو عائلي، أو باحث بل باحثون عن عمل في كل أسرة، أو مديون للبنوك، أو عليه شيكات مستحقات الدفع، ولا يتوفر له رصيد بنكي، أو قضايا في المحاكم. أما العتاب فعلى أولئك الذين يمشون على الأرض بأقدامهم، وقد أسسوا هذه المرحلة بماضي انشغالاتهم بمختلف الطرق المؤدية للعيش المريح الآن، والعتاب على المسؤول الذي أؤتمن على مجتمع في منصب حكومي أو خيري، ولم يعلم أو علم بمثل هذه الحالات.
أين الفاعلون الرئيسيون في مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار، والجمعيات الخيرية التي تُعنى بمثل هذه الحالات الإنسانية "الحرجة جدًا"؟ تواصلتُ مع اثنين من هذه الجهات، ولاقى تواصلي تجوابًا فوريًا، لكن أين النتائج؟ لمستُ بعضها، لكنها محدودة جدًا، ولا تنتشل مثل هذه الحالات من مستنقعها المعيشي. والآخرون ممن تواصلت معهم، لم نسمع منهم صوتًا أو نرى نتيجة! هل بسبب البيروقراطية؟ ربما، هل بسبب احتكار السلطة الخيرية؟ ربما! لكن لن نُعمِّم، فهناك سلطة تقادمها في المنصب يُنضج تجربتها، ويُثري العمل الخيري، وهي ليست عامة، ولا يمكن أن تكون مبررًا لتعميم الاحتكار.
أما الفاعلون في السلطة المحلية في ظفار، لو أرادوا حل مثل هذه الحالات فهي في صلب صلاحياتهم اللامركزية، بصرف النظر عن وجود سلطة محلية تمثل المركزية، وهي المديرية العامة للتنمية الاجتماعية؛ إذ كان يتوجب على اللجنة الاجتماعية أن تحرك المؤسسات الاجتماعية في ظفار؛ سواء الحكومية الرسمية أو التطوعية من أجل فتح ملفات اجتماعية للحالات الإنسانية التي تظهر فجأة فوق السطح، وتعمل على تأمين أساسياتها من كل الشركاء الاجتماعيين في المحافظة، وليس شرطا وجوبيا من موازنة التنمية الاجتماعية المحدودة.
المرأة ليست النموذج الوحيد على الشوارع، وإنما هي الأكثر درامية، والأكثر تعارضًا بين عدم ضمانة الحقوق الفردية في طابعها الإنساني الأساسي- المرأة نموذجًا- وأكثر صرخة للحقوق، لا نقول عامة، وإنما على الأقل في مثل هذه الحالات. فهل نتساءل عن دور اللجنة العمانية لحقوق الإنسان الحكومية؟ وهنا نقطة مفارقة كذلك، فما دام كل المؤسسات الحكومية المركزية واللامركزية وشبه المستقلة، لم ترَ بعيني فاعليها أو مرصد متابعتها هذه الحالات، فكيف بعيني اللجنة العمانية لحقوق الإنسان أن تخترق التراب الوطني، وتعبر من حدودها المسقطية لتقطع أكثر من ألف كيلومتر لترصد مثل هذه المشاهد، وحتى لو رصدت، فصلاحياتها تنحصر في رفع التقارير.
الحل بسيط، وفي المتناول إذا ما فُعل دور المؤسسات واللجان المحلية المختلفة، وهذا الحل ليس في تحويل النساء المنتجات إلى عالة على أنظمة الإعانة، كيف؟!
نقترح على اللجنة الاجتماعية التابعة لمكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار قيادة الفعل الواجب، وتحريك كل الشركاء الحكوميين والرسميين والمستقلين، وبالذات الجمعيات واللجان الخيرية في صلالة، لضمانة أساسيات حياة مثل هذه الحالات الاجتماعية، من مأكل ومشرب وكهرباء وماء شهريًا، والاتفاق مع المراكز التجارية الكبيرة على فتح محلات لهن في الواجهات الأساسية بالمجان من منظور مسؤوليتها الاجتماعية، عوضًا عن بيع المنتجات في الشوارع الرئيسية وفي الظروف القاسية مناخيًا وصحيًا، وذلك المشهد صرخةٌ حقوقيةٌ متعددة المسؤوليات، بما فيها هيئة حماية المستهلك المجاورة للمشهد المذكور، فظلت تتفرج، ولم تُحرك ساكنًا، ولن نبرئ المجتمع المحلي بفاعليه وفعالياته.