الشيخ حمد الطائيّ.. «سليل الشعراء وجوهرة الأدباء» (3)

 

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

ولأن «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، فإنّ العناية الإلهية ضربت حصنًا غير مرئيّ على الشيخ حمد بن عيسى بن صالح الطائي وأهله، لِمَا بذله من فداء للوطن، فنجا من شِراك ماكسويل المنهوم للانتقام من كلِّ عُمانيٍ وطني أَوْفَى عليه، وصار تحت إمرته وبين يديه.

فبعد أن استملك الشيخ إربه، وقضى وطره في جوادر، خرج بأهله ونسله من تحت إمرة العسس والبصاصين وعيون الجنرال ماكسويل الذي أضمر له شرًا مستطيرًا لولا يد القدرة الباطشة وملائكته الموكلين بصحبته؛ «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ».

ولأنَّ أقدار البشر مفتولة ومتضفرة في أرشاء المدن، فقد خرج الشيخ حمد بن عيسى الطائي من جوادر في العام نفسه (1958) الذي سلَّت عُمان يدها من وعثائها بيضاءَ من غير سوء بعد انقضاء قرنين من الزمان، وتداعي أكلةٌ كُثرٌ إلى قَصْعتها؛ فقد كانت الهند تضع عينها عليها، وترمقها باكستان كقطعة مجتزأة من لحم قلبها، و"إيران الشاه" لا تغفل عنها في الوقت الذي كان الإنجليز يغسلون أيديهم للخروج بجيوشهم من المنطقة بعد أن تآكلت إمبراطوريتهم وخرجت من بين ظهرانيهم دماء زرقاء جمعت أجناسًا من شتى بقاع المعمورة جدد بيض، وغرابيب سود، وفي عام 1776، تمّ الإعلان عن استقلال المستعمرات باسم الولايات المتحدة تحت إمرة الجنرال «جورج واشنطن» وصارت تنازعهم أطراف الأرض التي لا تغيب عنها الشمس.

عاد الشيخ حمد بأهله من «جوادر» إلى مسقط مترجمًا عسكريًا تابعًا للجيش في «فهود» و«الدقم»، ولأنه يحمل بين جنبيه قلبا لا يتعسّف الخسائس، رضِعَ حبّ المغامرة، وركوب الشدائد العِضاض، واحتلاد الأهوال، «يرتوي من رشح الحَجَر ويغتذي بلبن الطير»؛ صقلته الحكمة، فأَعْذَبَ عن الركون إلى الدعة، واستنكف الرضا بمِذَق العيش المتهدلة، ونبش الأرض عن مِثراة تبدد غيوم الإملاق المستنزلة، على بيت درّت معيشته، وتراحبت أسباب الحياة بين جنباته، ويدعدع المال في طِلاع الأرض لا يخشى الفقر، فقد حمل عصاه، وجهّز زادا وراحلة وولّى وجهه شطر المسجد الحرام، ونزل في ضيافة «الشيخ محمد بن عبد الله السالمي (الشيبة)» بـ«الخُبر» من المنطقة الشرقية؛ شيخ من أعيان عُمان وعلمائها استطالت بالفضل سيرته، وابيضت من أعمال الخير ساحته، ما قصده ذو قرابة أو صاحب حاجة إلا وجده بحرا بلا ضفاف، ولا اشتك السرائر المبلوّة في حضرته غوائل الأيام إلا وهَمَتْ سماؤه بالإنصاف، فأحسن وِفَادته، ومحَّضه النصح، وكشف دخيلته، وهشّ عن طريقه كلَّ طِيْرَةٍ وقرأ عليه نُشْرَتَه، وقَشَعَ ظلامَ غَبشته، وقضى له خُلّته، وخَصَفَ له كل فُرْجة تنفذ منها شياطين الإنس المائجة.

ولأن كل إنسان يحمل قدره فوق كتفيه، فلم يطُل المقام بالشيخ حمد الطائي في المملكة العربية السعودية إلا نزرًا يسيرًا من الزمن، فقد انطبعت شخصيته على حب المغامرة، والسير في المفاوز المقفرة، ولا يستروح الحياة السائمة ولا يعتلي إلا الفرسَ السِمَاسَ الهائجة، ولأنه رجلٌ شَمَمٌ مشهورٌ بعلّو همّته، لم يعتد شدَّ الأحجار ما بين الكشح والخاصرة، ولن يرضى من الحياة شظفَ عيشٍ ومسغبة، وتأبى نفسه العفيف قبول كل مخمصة؛ فارتحل إلى «البحرين»، ونزل منطقة «القضيبية» قُرب جامع الزيّاني، وكان ابنه سعود يومها لم يتجاوز السنتين، واستقرّ به الحال، وطاب له المقام وفَغَرَت السعادة فَاها، وفَغَمَت الأطيابُ أرضها وسماها، وردّدتِ الفرحةُ بين جنبات الدار صداها، وتَبَجّسَ الخيرُ والنماء في شرفاتها، وخَضَّلَ ماء الرضا ثراها، ومَلَّسَ الثراء نَبْرَها، وسَوّى إعوجاجها وأزال بلواها، ثُمّ عقّبت له ربّة الخلق المصون المرأة الصبور العَرُوب، إخوة لابنه سعود، فازدان فِراشه بابنته «أمل وحاتم الطائيّ».

ولأن الدنيا دار ابتلاء، فقد جَبَأَ الشرُّ كشمس القيامة الغَاربة على حياة الشيخ حمد الهانئة، واضطرمت النفوس الفائرة، ونفثت الحيّة الرقطاء سُمها، وأومضت عيون العسس في الظلمات الساكنة، وتحسست كل موطيءٍ في البحرين تدوسه قدم الشيخ، تتبع ظله نهارا، وتتعقّب طيفه ليلا، وكأنّ لسان حاله يقول: «عَدَتْكَ حالِيَ لا سِرِّي بمُسْتَتِرٍ *** عن الوُشاة ِ ولادائي بمنحسمِ»، وعلى ما يبدو فإنّ ملفات أجهزة الاستخبارت لا تنغلق، والثارات لا تخمد نيرانها، ولا يبرد رمادها وإن اختفى دخانها، فبعد أن أفلتت يدُ القدرِ رقبةَ الشيخ من الجنرال ماكسويل في جوادر وجد نفسه محاصرا بجواسيس الميجور براون، يُنغضُون إليه رؤوسهم، وينغصون على أهله معيشتهم، وينصبون له فخاخ مكائدهم، ويصنعون له الكمائن في طرقاتهم، ويستدرجونه إلى أشراكهم، ودخلوا عليه داره، وروعوا أهله وأطفاله، ونبشوا كوامنه وأدراجه، واقتادوه إلى ثُكنتهم قيدَ التحقيق، ومنعوا عنه الزّيارة، وخلّفوا أهله بلا رفيق ولا أمين يقوم على شؤونهم، حتى حضر شقيقه حمود فقام على شؤونهم، وأوقف نفسه على رعايتهم وخدمتهم حتى احتال وأخرجهم إلى دبي عن طريق البحر، يتردّد في صدورهم، قول الشاعر: «وقُل للشامتين صبراً *** فإن نوائبُ الدنيا تدورُ».