لماذا لا نكون أكثر واقعية

 

يحيى الناعبي

الواقعية هي أن نعيش أو نسرد الأشياء بواقعها بما ترمز إليه حقيقتها لا بما تنسجه مخيلتنا في رسم الوقائع والأحداث. لن أتعمق في التعريفات العلمية والأدبية الكثيرة المُتعلقة بالواقعية حتى لا تأخذنا إلى شعاب ومتفرقات في أجناس الواقعية المتعددة وأطيافها (السحرية، الأدبية، السياسية، إلخ). فما أسعى إليه هو تحديد الواقعية بتمثيلها الموضوعي البسيط لواقع الناس وحياتهم المعيشية وكيفية مناقشتها وعلاج قضاياها بموضوعية وحيادية.

تعودنا وللأسف الشديد على تابو عدم التطرق إلى الواقعية في مجتمعاتنا العربية حيث هي بمثابة التدخل في السياسة، وكذلك الخصوصية الجمعية (هذا المصطلح الضبابي الذي لم يستطيع معرفة كنهه قاموس الحياة المعيشية للإنسان) والتي تعتبر عند الجميع أكثر متاهة من السياسة، لذلك أصبحت قنواتنا الإعلامية فارغة وباهتة وغير هادفة. فلسفة السياسة والخصوصية والدبلوماسية الركيكة هي من صنعت الانزواء وصناعة تهريب الأفعال والظواهر في الخفاء. يمارس فيها الإنسان الظنون والأوهام في سلوكه وتصرفاته. بالرغم من المآل الذي وصلت إليه آلة الإعلام المصاحبة أو البديلة في توسيع رقعة المعرفة عند الفرد في كل مكان.

إن الهروب من الواقع الذي يعيشه المجتمع ومحاولة الفرار من حل قضاياه يفقد روح ديناميكية الحياة بما يعيشه من تحولات في حوادثها ويجعل منها جامدة باهتة وبلا روح. كما أنه يضعف شغف المشاركة ومزية التداخل في الأفكار والآراء من أجل الرقي بالفكر الجيد وإيجاد الحلول للقضايا الأخرى. فلا أحد أقدر على تناول مشكلات المجتمع والتطرق إلى قضاياه أكثر من أبنائه.

ينبغي أن تكون هناك مساحة إعلامية واسعة تستقطب المتفرقات والمتناقضات من أجل زرع جدل فكري ثقافي صحي من مختلف المؤسسات في المجتمع. وهذا بدوره يخفف من مركزية الوصاية وفرض الرأي الذي غالبًا ما يأتي من ذوي عدم الاختصاص الذي يجعل تناول المواضيع وطرحها أقل موضوعية. وهذا بدوره يسري على الإجراءات والقوانين المرسومة في تنظيم آلية وتسيير بعض المواضيع؛ حيث تكون نتائجها هو التخبط والفشل الذي يساعد على اختلاق المساحة التي يتم فيها اختراق القوانين في المساحة المسماة Gray area برضى المشرع وعلمه على أن مرتكب المخالفة للقانون استطاع أن يجد ثغرات يجهلها المشّرع. كل ذلك بسبب غياب الاختصاص وعنجهية المشرّع عن أن يلامس واقع الناس ومسايرة التطور في ديناميكية حياتهم.

أما على مستوى الواقع الاجتماعي، فهناك الكثير من النظريات الفلسفية التي شرعت في توسعة المفهوم الضيق للمجتمع الذي تم تأطيره وفق قواعد ونظم ثابتة، فعلى سبيل المثال هناك نقد الواقعcritical realism   أو ما يطلق عليها (الواقعية النقدية)، وأيضا فلسفة (ما بعد الوضعية) post-positivism وهاتان الفلسفتان خصصتا لنقد الواقع  أو الموضوعي، والفكر الذي تقوم عليه هي أن المجتمع متجدد ويواكب التغيرات المحيطة بخصائصه، بالتالي لا يمكن أن تكون لديه ثوابت مستمرة بل تكون لديه ثوابت مُتغيرة أي أن صلاحيتها وقابليتها في إطار مرحلي ظرفي مُعين، يمكن تجاوزه مع التغيير الذي يطرأ على المجتمع. بالتالي هذا يردّ على مصطلح الخصوصية التي ليس لها وجود فعلي قائم على أسس ملموسة، بل هو مصطلح هلامي يستخدم وقت الحاجة للهروب من واقع الحال.

من هنا يجب على المجتمع أن يكون مرنًا في التعامل مع قضاياه وهذه المرونة يجب أن تكون نابعة من المختصين في العلوم المختلفة غير محتكرة على علوم معينة وبحد ذاتها. وهذا يعود بنا إلى القناعة بأنَّ المعرفة نسبية وأنها غير قائمة على كيان أو منبع معرفي واحد وهي متغيرة في سياقها من زمن لآخر. توجد أمثلة كثيرة تبين دور الأدب الكبير في طرح الواقعية على منضدة القراءة وقد ساعد ذلك كثيراً العلماء في الالتفات إلى الكثير من الجوانب الفلسفية والنظرية بالإضافة إلى العلوم السيكولوجية والاجتماعية. بالرغم من تعرض الأدب للنقد من قبل المتعصبين بجمود الأفكار المتعلقة بتغير واقع المجتمعات.

هذه دعوة للإعلام في أن يمد جسوره في جمع الأضداد بين مؤيد وناقد حول ظواهر المجتمع ومناقشتها على منضدة الحوار وبين طيات صفحاته. إعلامنا فقير جدًا لهذه المواضيع من منطلق السياسة والخصوصية، لكن الحقيقة هي أنَّ الظواهر تمد جذورًا عميقة في أراضٍ خصبة، وذات يوم سوف تظهر على السطح وتتمكن من المجتمع وهو عاجز عن مواجهتها بعد تفاقمها.