ناصر أبو عون
كانت المسافة بين عُمان وجوادر رغم انقطاع أسباب التقدم قصيرة غير مُتراخية فأبضّ الشيخ حمد بن عيسى بن صالح الطائي رِحَاله، وطوّحت به النوى عن أصلابه وأصحابه، وأبزّ كظبيٍ إلى راحلته متأبطاً رفيقة دربه في حله وظعنه، فبها يُحرز نفسه، ويأمن غوائل الأيام، مستشفعًا بتزكيةٍ من صاحب السُّمو السيد طارق بن تيمور- طيب الله ثراه- آخذًا إصْره أمانةً في عنقه، قابضاً على جمر الشعر والترحال، يصونُه من الزلل إرْبٌ لا يخالطه الهوى، مُغْفلا شِعاب قلبه من شواغل الدنيا إلا من محبة لعُمان إنسها وجِنّها؛ تلبّثت ما بين اللحم والنبض، فلم يتنكّب جادة الطريق، واستوثق أقصد المسالك فَسَلَتَ نفسه الأمّارة بالخير من سُدف الرَّيب المهلكة، واستنار بمصباح أصالته المزهرة في كل كاظمة ناهكة، واستأنس بحليلته الفاضلة «أسماء بنت يوسف بن سعيد بن ناصر الكندية» العفيفة المِطواعة فكانت نبراسًا يُومِض له في مواضع الزلل، وشوّارةً صِدّيقةً إذا جبأَ في مسيرته كل داهية إِذْل، وكَتِفًا دفيئًا إذا شكا بثًّا وانْبتَّ الأمل، وجفنًا حرّاسًا إذا اضطرمت العِلل، ومعوانةً على صروف الدهر؛ لا ترضى الدنيّة إذا أكدى، وسِباطًا وبحرًا إذا أثرى.
في الطريق إلى جوادر استظهر الفتى الطائي زادًا وصاحبةً تستشعر الصبر عند كل نازلة، واستصحب ثُلّة من الأرفاق لا يرضون المذلة والقماءة في وطنيتهم، خرج بهم خابطا يعدو في ليل جهول، ويقطع في معيتهم كل عسف صؤول، مُتقلّلا الأنس في حضرتهم ومستعينا بأسيافهم على كل عاقص قرنه ملول، لا يأبه لكل نفسٍ ضؤول مملول، ولا يركن إلى رواة الأضاليل، يركب الصعب الجموح، غير هيّاب ولا مُرتاب فلم تكن غوامض الأيام القادمة مستضاءةً مسفرة، ولا الأجواء السياسية ضاحكة مستبشرة، ولا يدري الراحل أين يضع رجله.
ولأنّ الفتى الطائيّ جاء إلى «جوادر» ترجمانا ومستوظفا في القنصلية البريطانية، فقد مكث في بيت القنصل الذي كان في سِفْرة إلى بلاده، وخلّف من ورائه دارَه خاويةً بغير أنيس ولا جليس. فارتأى المستوظفون المستقبلون له أن يعمرها فيبدد صمتها، ويستضوء ليلها، حتى تستأنس ملائكتُها بروحه المؤمنة، وتطرد شياطينها الفاجرة، وتستروح من وعثاء السفر نفْسُه المستوفزة، ويجلو ما شعَّ في بدنه من الفيافي المقفرة، ويأنس بالجيران لوفادته، ويستوي له المقام، فيصير غير عجلان ولا ناكل متأخر أسيان، إلى أن يعود صاحب الدار.
وبعد قرابة أشهر أربعة خلون من نزوله سهل جوادر، وانزوى أرق العيون الساهرة، وحلوله أهلا في أكناف الوالي السيد سعود بن إبراهيم البوسعيدي حيث غضارة النعمة السابغة، وسعة العيش المونقة، فتضوأت حيواته، وباق الحزن عن أرفاقه، واستأجر بيتا كان مستقرّا للرضيع عيسى فرع أبيه، وخِدْن فصيلته التي تؤيه.
عامان بالكمال والتمام انقضت على الفتى الطائي في جوادر جزحَ فيها شجرة الاغتراب، ولم ينحسِم وصله عن عشيرته وأهله، واستوى غيبه ومشهده، لا يُرَى في مظهره وخلوته، إلا وازِنَ الرأي، رامِقَ الطرف، يرسله بعيدا حيث ديار الأحبة تصدح بصولة الحق على شطآن بحر العرب تردّد أصداءها مآذنُ داخلية عُمان، والفتى يفتأ يذكر مفارقة الإخوان، ولا تنفصم عن خلجاته أطياف الخِلان، فينكسف دمع قلبه، ويذوق مرارة الغصة، فيتوكّف غمامات الشوق، دامي الجراح، ويستنشي نسائم اللهفة المهطعة، ويتندّى الرياح المرسلة، لتحمل قلبه على أشرعة الحنين النابضة قد أوجف الشعر لسانه وهمى الدمع من تلاع العينين ممزوجًا بدمِ.
في هذه الأيام كان الصراع على أشده داخل «سلطنة مسقط وعُمان»، أسهب في توثيقه الأديب الموسوعيّ عبد الله الطائي في كتابه «تاريخ عُمان السياسيّ» وجاء فيه: "كتب المستر شالمر روبرتس في جريدة واشنطن بوست بتاريخ 27 يوليو 1957: «إنه لو فُقِدَت ’مسقط وعُمان‘ فستحدث نكسة تهز النفوذ البريطاني في كل مشيخات ساحل عمان وقطر والبحرين والكويت وعدن.. وكل ما تخشاه بريطانيا هو القومية العربية».
ولمّا كان الفتى الطائي يحمل بين جنبيه ضميرًا غيرَ هيّاب، وفورة وطنية عطاؤها لا ينفد، وصحوة عُمانية جذوتها لا تخمد، وهو من أخيار القوم، ألبسه تاريخ عشيرته درع الولاء في السراء المُوثرة، والضراء الموبقة، وصقلت روحه أسنة الرماح المتأصلة، واستحدّت سيوف الحكمة روحه الثائرة، فصار طبعه مَرِيدا، لا تثنيه سُدف الرَّيب المبهمة، ولا تميل قناته في المعامع القاهرة، و لا تلين شكيمته في النواهك المهلكة، وإن أكل الحَسَك وتكاثرت عليه نصال الإفك، فاستحثّ الأخبار، ونبش ما خفي من الأسرار، فلما تيقّن من عزم السلطان سعيد بن تيمور التّوجّه بقواته وقادته، قادمون من الدقم ناحية «عبري» الخاضعة لسيطرة دولة الإمامة وبوابة عُمان الداخل، أخذت الفتى العزّة بوطنه، واستفزَّ نفسه الأمَّارة بالحب فلم يخش المهالك، وركب أقصدَ المسالك، ولم تُقعده نوازي الكبد عن الوفاء للأوطان.
سرعان ما انكشف سِتر الفتى، واطلع العسس والبصَّاصون على ما اقترفت روحه الوطنيّة من دعم ومساندة، فأرسلوا أوهاق الوشاية، لتردغه في أوحال الخيانة، وتوصمه بالنكص والمهانة، غير أنّ يد الأقدار كانت عليه حانية، ودعوات المجاهدين حصنته من شر كل داهية. فبعد أن عقد ماكسويل النيّة على محاكمته عسكريًا، جاءه مكتوب العفو من السلطان سعيد فخلّى سبيله واستبعده من العمل مع جنده وعسكره.
أدرك الطائيّ أن عناية الله حافظة، من كل وَبيئةٍ مهلكة، وإن أجمع القاسطون أنه لا شك هالك مصروع، وأظهر البصَّاصون له المقت والكراهية، وأبانتْ كلُّ صِلٍّ رقطاء عن نابها، ونفخت سُمها غير متأنية، وأبدى كل مائق حاسد حَرَّ عينه الفانية.
لقد أيقن الفتى الطائي أنَّ «القلب مصحف البصر» لا يهابُ شفرة السيف وإنْ غارت في حبل الوريد، ولا يثنيه زبرج الدنيا وما لاح في كفِّ كلِّ شيطان مريد، فقد كان مطبوع الشجاعة، صُلْب العود، مفتور على القناعة، لا تستدرجه المخاوفُ؛ أعاليها وسفاسفها، لا تروعه المحن، مجبول العريكة على الوفاء للوطن، لا ينجرّ بزخرف زائل إلى مداحض المذلة، ولا يتوسّل الناس فيما لا يملكون؛ فمبلغ علمه أنهم بشر؛ زلّ من استوثق في أعلاهم النفع والضرّ، وعَطِبَ من استنصر بأدناهم باء بغضبٍ وخسر.