د. مجدي العفيفي
و.. تتجلى الفنون الجميلة ومضات كاشفة لكل جميل في الحياة، وفي نفس الوقت فإنَّ هذه الفنون تشكل رموزا غامضة، ترادف البحث عن أسرار الجمال، وتقريبه إلى النفوس التي تتعبها ماديات الحياة المعاصرة، كفن من أعرق الفنون الإنسانية وأقربها إلى النفس، وقد عرفها الإنسان منذ بداية حركته على وجه الأرض، وكانت أسبق الوسائل التوثيقية، لتسجيل طرائق عيشه، وتجسيد أفكاره، وتصوير رؤاه للعالم والكون، سواء بفنون النحت والتصميم والرسم والحفر والتصوير، عبر توالي الأزمنة وعلى امتداد الأمكنة.
وتُؤكد المكتشفات الأثرية على أن الإنسان العماني، قد عرف الفنون التشكيلية، منذ قديم الزمان، وها هي آثاره الفنية الخالدة، على الصخور منقوشة، وفي الأودية محفورة، وفي الأثريات مسطورة، حتى يومنا هذا.
ولقد جاء الفنان العماني المعاصر، ليتواصل مع هذا التراث، في رحاب الحاضر الزاهر والزاهي، يستلهم منه ويقدم إبداعاته بالريشة والفرشاة والحجر والزيت واللون والكاميرا والعدسة، مستعينا بوسائل التعبير الجمالي والتشكيلي والتطبيقي، ليلتحم من جديد بموكب الفنانين الذين يساهمون في تجميل العالم وتشكيل وجدانه وذوقه ونظرته للحياة بثوابتها ومتغيراتها.
وتتحلى هذه الخريطة التشكيلية العمانية، بالكثير من الأصوات النسائية، التي انطلقت تحلق بأجنحتها في سماء هذا الفن الرفيع، وقد أطلقت قدراتها في كل اتجاه فني، وامتصت رحيق المدارس التشكيلية على اختلاف مذاهبها، لتعيد تشكيل ذاتها بخصوصية نابعة من البيئة التي تفيض باللوحات الطبيعية، في كل جنبات المجتمع والأرض العُمانية.
ويمثل تعدد الأنامل النسائية في هالة الفن التشكيلي، ظاهرة تستحق الوقوف أمامها طويلا، بل تستدعي التأمل فيها بشفافية، فالفنانة التشكيلية العمانية، تتسم بالغزارة في الإنتاج، وتتميز بالتنوع في طرح الأحاسيس، وتتلاقي علي لوحاتها، أصداء المشاعر الملونة بذوات صاحباتها، وانعكاس الملامح البيئية على مرايا ابداعاتها
وتنساب إبداعات الأظافر الطويلة موجة في إثر موجة... كموجات مشحونة بالحرارة ومسكونة بالغزارة، وهي ثنائية تمثل معادلا موضوعيا لهذا الفن الراقي، ومن ثم أتوقف في هذه الحلقة والحلقة القادمة، أمام فنانتين جميلتين تمثلان روح الريادة..
رابحة محمود.. الرسم بالكلمات
وما كان للحركة الفنية التشكيلية بفنانيها وفناناتها، لتصل إلى ما وصلت إليه من تطور وتقدم في الشكل والمضمون، إلا بعد سلسلة من مراحل التجريب، وبعد أن عبّد رواد هذا الفن، الطريق أمام الأجيال المتلاحقة على الساحة، والتي تتجمل بالتواصل والتكامل والتفاعل.
ثم جاء التتويج الجميل لحركة الفنون التشكيلية متمثلا في قدرة «الجمعية العمانية للفنون التشكيلية» على توفير الأجواء المناسبة، لتنمو فيها التجارب الجديدة، وتتجاور مع خبرات الرعيل الأول، في منظومة فنية ثقافية، هي من صياغة ثقافة النهضة، ومن صناعة نهضة الثقافة.
أنامل رقيقة، ترسل وهجها الجمالي، من اللوحات والألوان والظلال والأرواح الهائمة في مدارات الفنون التشكلية، وأسماء كثيرة، يصعب حصرها في هذا السياق، بأشواقها التي تستدعي مساحة منفردة، لتحتوي حرارتها، وتلملم غزارتها، لا سيما أن (الكلمة) عن الفن التشكيلي تظل منقوصة ما لم يشاطرها (صوت اللوحة).
ثمة اسمان يبرقان بالعطاء المُتواصل الذي يجمع من أجل ذلك لا بد من انتقاء رمز تشكيلي رائد، كل منهما تلون رؤيتها التشكيلية، بالحساسية الشعرية، وهما التشكيليتان(رابحة محمود) و(سهير فودة)
مع أن رابحة محمود لم تجمع كلماتها التي ترسمها باللوحات، أو لوحاتها التي تكتبها بالكلمات، وكانت تنشرها تحت عنوان "ذاتيات" في جريدة عُمان... إلا أني كنت أجمع تشكيلة من مقطوعاتها الشعرية المصاحبة للوحاتها التشكيلية، لاستثمارها بعد حين، وتحسبًا ليوم أضعها أمام عيون العدسة النقدية.. وها هو اليوم.
كم تحاورت مع رابحة محمود.. وكم حلقنا على أجنحة لوحاتها المكتوبة منها بقلمها الرقيق.. والمرسومة بفرشاتها الأنيقة، وكانت هي تفضل وكنت أوافقها أن إبداعات الفنان خير من يتحدث عنه.
من أجواء ذاتيات الشاعرة التي ترسم بالكلمة وتكتب بالفرشاة:
لماذا نكتب:
لأجل الحياة.. لأجل الجمال..
لأجل المحبة.. لأجل أن ننبذ القبح
أن ننسى الحقد.. أن نهجر الشر
لأجل أن ننشرالسعادة.. أن نمجد الخير.. أن نزرع الفرح
لأجل أن تكون حياتنا جميلة، وميتتنا نبيلة
اكتب كلماتي.
***
الشعر:
الشعر ثورة.. برج في الداخل
يهز من الأعماق.. بركان.. انفجار
أيضا زهرة أقحوان
فدعوا الشعر.. غزالة شاردة.. نسرا محلقا..
عقابا جارحا.. عصفورا أخضر يطلق جناحيه ويطير
الشعر آهات وصرخات من قلب الشاعر.. فكره.. وجدانه
إلى قلب المتلقي.. وفكره ووجدانه.
لا أحب الشعر فراشات محنطة يصطادها الشاعر في وقت فراغه،
يصبرها ويعرضها على لوحة مخملية مبروزة بالذهب.
أحب الشعر.. تعبيرا عن الخلجات الفنية التي لاتلبس أثوابا قشيبة من
البديع والبيان تخفي جمالها الفطري.
لا أحب الشاعرالذي تعلق الأوسمة على صدره، وينصب أميرا.
الشاعر الحقيقي يمشي في الطريق لا يعرفه أحد.
رفيق الناس، أصدقاؤه يقاسمونه خبز القلق، وهم التوق إلى الأحسن.
أن تكون شاعرا يعني أن تتعاطف مع كل ما هو عفوي، مدهش صادق.
الشعر أن تبهر بالعشبة المنحنية للريح،
بالغيمة المندوفة بشراع يرحل عبر المسافة.
الشعر أن تغني لزهر الحقول، لأعشاش الطيور، لأحجار الطريق المتعرج،
للإنسان.. للأطفال.. للمحبة.
***
الفن
التصوير اكتشاف
كل ضربة فرشاة ولوج إلى عالم السحر والخرافة،
الحلم والغموض والدهشة
الفنان يتجسد في عمله.. على قماش اللوحة
يذوب مع الألوان.. ينساب.. يرق.. يتدفق
أو يعصف ويزمجر
يلمع في عيون الأطفال
يتكاثف كالغيم.. يخطف كالبرق
يحزن.. يفرح. يتألق..ويكوّن دنيا من ضوء ولون..
ومشاعر تغمر هذا الكون.
***
الفنانة:
مفعمة بالحياة، متوثبة بالخيال
متوهجة الأفكار، جمة النشاط، مندفعة كشلال هادر.
تندفع بزخم موجة مسافرة في قلب المحيط الشاسع.
تحضن الدنيا بذراعين من شوق وحنان.
هاجسها العطاء، أحلامها بحجم الكون.
تتفتح الريشة بين أناملها وتزهر ألف حكاية سحرية.
ويتفجر اللون ينابيع فرح
تأخذنا إلى عالمها الذي يشبه حلم ليلة صيف..
تجوبه في رحلة أسطورية تشبه الضياع في غابة عذراء.
تقتنص لحظات الجمال وتخلق عالما يمور بخيالات غامرة.