مدينة عصرية غير ربحية برعاية ملكية

 

د.هادي اليامي *

 

باهتمام بالغ قابلتْ الأوساط المحلية والعالمية إعلان صاحب السُّمو الملكي محمد بن سلمان آل سعود ولي العهد بالمملكة العربية السعودية، عن إطلاق مشروع "مدينة الأمير محمد بن سلمان غير الربحية"؛ كأول مدينة غير ربحية من نوعها على مستوى العالم في مدينة الرياض؛ لتكون نموذجاً مُلهماً لتطوير القطاع غير الربحي وحاضنة للشباب وبؤرة إشعاع ثقافي وتنويري ومركزاً يوفر فرص التدريب المتميزة التي تعد رواد الأعمال وقادة المستقبل لاستلام راية الإنجاز والعطاء، وتخريج أجيال نوعية من الشباب الذين سيستفيدون حتماً من المدارس والكليات والأكاديميات التي تضمها المدينة، إضافة إلى مركز المؤتمرات، والمتحف العلمي، ومركز الإبداع.

تلك المؤسسات التعليمية لن تكون كنظيراتها المنتشرة في بقية مناطق المملكة؛ بل ستكون حاضنة لقدرات نوعية ذات طموحات متفردة في مجالات العلوم والتقنية والذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء والروبوتات، إضافة إلى المهتمين بالفنون والمسرح والطهي.

هنا ينبغي التوقف عند نقطة جديرة بالتمحيص وهي المزج الفريد بين العلوم والفنون، فالمدينة التي تحتضن العباقرة والمتفوقين في مجالات التكنولوجيا والتقنية هي أيضًا واحة للمهتمين بالفنون الإنسانية، وهذا يمثل جوهر الرسالة التي تريد المملكة في عهدها الجديد إيصالها للعالم أجمع، ففي ذات الوقت الذي نسعى فيه للحاق بمجتمع المعرفة والتحول الرقمي، لكننا في الآخر لا نستغني عن الإبداع البشري والمنجز الإنساني. هذا المزج يمثل قمة الفهم المتقدم الذي تقوم عليه الأمم التي استطاعت الوصول إلى مراقي الحضارة والتقدم.

كذلك تتناغم المدينة الجديدة مع توجه المملكة للاهتمام بقضايا المناخ ومُراعاة الاستخدام الأمثل للموارد ودعم الحفاظ على البيئة، وهو ما يتجلى بوضوح في المخطط الرئيسي للمدينة التي يمثل الإنسان محور اهتمامها الرئيسي، فقد تم تصميمها لتكتسب صفة الاستدامة عبر تخصيص نحو 44% من مساحتها الإجمالية لتكون مساحات خضراء مفتوحة والاهتمام بتحديد مسارات للمشاة.

من أبرز ما تنفرد به المدينة أنها ستكون حاضنة وداعمة للمؤسسات غير الربحية "منظمات المجتمع المدني"، وهذا ما يساعد على توفير بيئة مناسبة لاستقطاب الخبراء وأصحاب التجارب الدولية في الأعمال غير الربحية بما يحولها إلى ما يشبه بيوت الخبرة العالمية التي لا يتوقف أثرها على الواقع المحلي فقط، بل يمتد ليشمل المنطقة العربية بأسرها.

وللحقيقة فقد أثبت القطاع غير الربحي في المملكة جدارة كبيرة خلال الفترة الماضية، فقد أصبحت تلك المؤسسات تتلهف إلى المزيد من المبادرات وتتطلع إلى اكتساب الخبرة والمعرفة، لاسيما بعد الاهتمام الكبير الذي وجدته في هذا العهد الزاهر، خصوصاً بعد إقرار رؤية "المملكة 2030"، وما تلا ذلك من خطوات تنظيمية رائدة هدفت إلى مأسستها وحوكمتها وتخليصها من كل ما يُمكن أن يؤثر على أدائها.

الحقيقة أن الخطوات التي اتخذتها المملكة خلال الفترة السابقة لإعادة تنظيم القطاع غير الربحي كان لها أثر كبير في تطوير أدواته وتفعيل أساليب العمل؛ لأنها حررته من كثير من العوائق التي كانت تعترض طريقه، وذلك عبر اتباع ممارسات عملية وأطر قانونية ورقابة مالية، ومن ثم بادرت إلى تقديم دعم بمبالغ مالية مقدرة لمنصة إحسان لتتولى ترشيد العمل الخيري وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، وبذلك تطور هذا القطاع الحيوي وأصبح شريكاً في التنمية وأحد أركانها.

لم تكتفِ القيادة بمُجرد التوجيه والإجراءات التنظيمية؛ بل إن مؤسسة "مسك الخيرية" التي يرأس مجلس إدارتها ولي العهد الأمير مُحمد بن سلمان، قدمت نموذجًا رائعًا في العمل الخيري بمفاهيمه المعاصرة، وأصبحت مصدر إلهام للمنظمات غير الربحية من واقع الأساليب الحديثة التي اتبعتها، وابتعادها عن النمطية والروتين، وتطلعها إلى آفاق أرحب، واعتمادها على الخيال القابل للتحقق، والرغبة في الوصول إلى كافة فئات المجتمع.

وإدراكاً لتلك المتغيرات والرغبة في تطوير بنية المجتمع فقد أقر مجلس الوزراء في عام 2019 إنشاء المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي؛ ليكون مظلة تنضوي تحتها المؤسسات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية وكافة الجهات ذات الصلة، بهدف تنسيق الأدوار، وتحديد الأولويات، وتقاسم المهام، وتنمية وتفعيل روح التطوع وسط المواطنين، بما يُؤدي إلى تعزيز الروح الوطنية.

ولأننا مجتمع شبابي بامتياز، ويغلب على تركيبتنا السكانية عنصر الشباب الذي يشكل قرابة ثلاثة أرباع عدد السكان، فإنَّ المدينة الجديدة سوف توفر تجربة استثنائية غير مسبوقة، مما سينعكس على أداء القطاع غير الربحي الذي تتنامى أهميته بصورة مستمرة في عالمنا المعاصر وأصبح يعرف باسم "القطاع الثالث" ليكمل ما يقوم به القطاعان العام والخاص في مسيرة التنمية والرفاهية. لذلك فإنَّ الآمال معقودة على هذا المركز لاستغلال الطاقات الشبابية الهائلة التي نتمتع بها، وتوجيهها لما يُحقق مصلحة المجتمع ونمائه.

ولما تمتاز به مؤسسات القطاع غير الربحي من قدرة فائقة على التأثير والتحرك بسهولة، فإنَّ المدينة الجديدة تتيح فرصة ذهبية للقائمين على هذا القطاع لتحديث أدواتهم ومسايرة العصر، فهي تمثل نبض المُجتمعات والمُؤشر الصادق على تقدمها أو تخلفها، بقدرتها الهائلة على التغلغل وسط الجماهير، وامتلاكها القابلية الكافية التي تمكِّنها من الوصول إلى الفئات المستهدفة في أسرع وأقصر وقت مُمكن. لذلك اكتسبت مصداقية كبيرة، لدرجة أنَّ الأمم المتحدة تعتمد على تقاريرها بأكثر مما تفعله مع التقارير الحكومية.

* كاتب سعودي

تعليق عبر الفيس بوك