ظلال إلكترونية خفية

 

يحيى الناعبي

الحياة اليومية التي نعيشها سريعة جدًا، تفوق سرعتها دهشتنا بها، لأننا وبكل بساطة لم نعد نتحكم بجدول يومياتنا؛ بل أصبحت أدوات وآلات ظاهرة وخفية هي من تملك السيطرة على واقعنا، وهرولتنا التي تفوق طاقتنا البشرية تتسارع بنا نحو الآلة التي صنعناها لتلبي خدماتنا، ولكن يبدو أنها تمكنت منّا وأصبحنا لا نملك من أمر أنفسنا شيئًا.

إنَّ حالة اللاوعي التي نعيشها جعلت منّا آلات لم تُبرمج جيدًا، فتاهت بين الحالة البشرية والعصر الإلكتروني وما بينهما من نزاع أخلاقي ووجودي. في البدء ظنّت البشرية أنَّ الاختراع التكنولوجي ما هو إلا وسيلة تساعدها على الاسترخاء من مشقة الحياة، لكنها اليوم أصبحت جهدا يمتص طاقة الإنسان النفسية والعصبية؛ حيث لم يعد لديه الوقت الكافي لتدريب حواسه وطاقاته العضوية، فقد اختلطت مشاعره بين حواسيب البرمجة العقلية والإلكترونية. لم يعد التفكير عقلانيًا نابعًا من العقل؛ بل هو مزيج من قرارات إلكترونية بمشاعر وفكر بشري مشّوش. كما لم يصبح للخصوصية الإنسانية وجود على الإطلاق، فقد تمكنت الآلة الإلكترونية من اختراق عالم المحسوسات والمشاعر لدينا وأخذت تحرّضنا على ما لا نرغب فعله، وتفكّر عنّا فيما نرغب القيام به وتؤثر في قراراتنا. حتى في اللحظات الأولى للتفكير حول موضوع ما، تجد أن كل المواضيع المُتعلقة بالموضوع المفكّر فيه قد انهالت على أجهزتنا الإلكترونية المختلفة، لتشعل فيك فضول البحث حتى وإن كان ذلك الموضوع هو مُجرد فكرة عابرة سيجعل منها ضرورة للتفكير والقرار.

قد يقول قائل إنَّ هذا التدخل السريع والمتنوع في عالم الإنترنت هو ميزة للمفاضلة وخلق التوازن في القرار، وهذا بالطبع جيد، لكنه في المُقابل تختفي الحقيقة خلف أقنعة كثيرة (آراء متباينة ومقنعة في ذات الوقت) وحيث إنَّ عالمنا أصبح متعلقاً جداً بنظام الحواسيب أصبح الجزء الأكبر من تفكيرنا تتملكه قرارات إلكترونية. لذلك ومن فرط الزخم المهول في العدد والتنوع حول الموضوع الواحد لم يعد الإنسان قادرا على التفكير الصحيح والقرار الأنسب؛ بل أصبحت قراراته واختياراته كما لو كانت مُتعلقة بالمقامرة واليانصيب.

يعيش إنسان العصر حالة من التشويش العام، أشبه بمن يظن نفسه أنه قد عزل نفسه ليفكر، ولكنه في حقيقة الأمر أنه يعيش وسط عشرات أو مئات من الأصوات والعقول التي تفكّر معه، بل في الغالب تلقنه ما عليه فعله، ولم يعد الفرد قادرًا على التعرف أو تحديد قدراته وإدراكه الذهني.

نسوق في هذه العجالة مثالًا واحدًا، والذي يشكّل بعض الهواجس غير المستقرة في حياة الإنسان. فمثلًا ازداد التفكير في مرض "كورونا" بين مُؤيد للقاح ومُعارض، فإنَّ أكثر ما يُصعِّب هذا التباين هو أنَّه نابع من فئات مختلفة وطبقات متنوعة من أفراد المجتمع، فهناك من هم في السلك الطبي ممن عارضوا مبدأ اللقاح وغير مُقتنعين كليًا بضرورته؛ بل على العكس أثبتوا في نظرياتهم أنَّ الأعراض الجانبية هي الأخطر من أعراض الفيروس نفسه، وقد تكون الأعراض غير مباشرة؛ بل تأتي بعد زمن من أخذ اللقاح أو تتم تدريجياً في التأثير على جسم الإنسان وخصوصاً في بعض الحالات المرضية والمصابين بالأمراض المزمنة. وبالتالي وبعد أن شددت سياسات بعض الدول على ضرورة أخذ اللقاح كونه متعلقًا بمصير الموظفين في وظائفهم والمشاركات الاجتماعية وغيرها، فإنَّ نسبة لا بأس بها قد تصل الآلاف ممن اختاروا ترك وظائفهم في مُقابل عدم أخذ اللقاح، منهم ممن هم في السلك الطبي أو الأكاديمي وغيرهم من طبقة المتعلمين وذوي الاطلاع الواسع. في المقابل هناك من يشدد على أهمية وضرورة أخذ اللقاح حماية لنفسه ولغيره. ويبين هذا الاختلاف والتباين على غياب الحقيقة والدليل القاطع جعل من الفرد غير مؤمن بقراره؛ بل إنه مرتبط بقرارات سياسية وتقارير ودراسات متنوعة أثّرت وتحكمت في قراره، وكلها نابعة من التعددية التي تضخّها الآلة الإلكترونية، ولم تعد نابعة من إيمانه ويقينه.

إنَّ الظلال الخفية التي يحملها عصر الإنترنت وعالم الإلكترونيات أخفت عالمنا البشري ومنطقه العقلاني. لذلك وجب علينا أن نهيئ أنفسنا للمُتغيرات المتسارعة في كل النواحي وخصوصاً الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتي سنكون خلالها آلة تُحركها رقائق إلكترونية، ربما تعتقد أننا عبء على عالمها الذي نعجز عن مجاراته.