نوفمبر.. ووقفات تأمل ومراجعة

 

سالم بن نجيم البادي

كتبتُ قبل رحيل السُّلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- مقالاً بعنوان "نوفمبري الهوى"، وبعد رحيله كتبت عن "لحن نوفمبر الحزين"، وفي كل نوفمبر لي مقال ووقفات تأمل ومُراجعة وفرح وبهجة، ففي نوفمبر يتجدد الفخر والاعتزاز بالوطن الغالي والجميل، الوطن العزيز في أحداق عيوننا وحبه يعمر قلوبنا.

نحب البحر والصحراء والجبال والأودية والشواطئ والسهول والهضاب، نحب البلدات النائمة في أحضان الجبال وضفاف الأودية والنخل الشامخ والأفلاج المُنسابة بهدوء لتسقي الإنسان والزرع، وتشي بوجود الحياة والأمل، رغم أنف التضاريس القاسية في بعض الأمكنة. الأفلاج التي تحكي قصة كفاح الإنسان العماني من أجل أن يعيش عزيزًا كريمًا لا يحني رأسه لأحد، من أجل لقمة العيش. نحب شجرة الهمبا الشامخة وشجرة الليمون التي تتمايل طربًا إذا هبَّ النسيم وتجود بأريج أزهارها لتعطر الصباح العماني مع زميلاتها البرية: السمر والسدر والغاف، في مواسم الازهار، وشجرة البيذام كالحارس الأمين تقف شامخة في البيت العماني. نعشق التمر العماني؛ الخلاص والنغال والفرض، وأنواعاً أخرى، نحب الأكلات العمانية كالهريس وخبز الرقاق، نهيم حبًا في الحلوى العمانية الشهيرة، نتحدث بفخر عن القلاع الحصينة والبروج العالية، نعتز بالزي العماني الفريد؛ العمامة والدشداشة والخنجر، نقف وقفات إجلال واحترام وتقدير مع تاريخنا العظيم منذ زمن مالك بن فهم، ويكفينا فخرًا وعزًا إشادة النبي صلى الله عليه وسلم بعُمان وأهل عُمان.. هذا تاريج مجيد، وعبد وجيفر ومازن بن غضوبة والمهلب بن أبي صفرة وغيرهم من رجال عُمان، الذين خلدهم التاريخ ويصعب حصرهم، والإمبراطورية العمانية المترامية الأطراف المتوسعة بحد الأخلاق والعادات والقيم العمانية الأصيلة وليس بحد السيف.

في نوفمبر نتذكر زنجبار وحضارة الإنسان العماني وجوادر والنفوذ العماني النبيل، نشتاق إلى أفريقيا؛ حيث مر العماني هناك وترك آثارًا عصية على النسيان والاندثار، يقودنا الحنين إلى أيام الأئمة العظام الوارث الخروصي، ومن بعده ومن قبله، وإلى دولة النبهانة واليعاربة وإلى أسرة آل سعيد؛ رمز وحدتنا واستقرارنا، وإرث مجدهم وباني نهضتنا المُعاصرة السلطان الراحل الحبيب قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- ثم مُجدد النهضة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه. نستحضر أسماء كوكبة من العلماء والكتاب والشعراء والذين تركوا إرثًا حضاريًا عالميًا، وقد اعترفت منظمة اليونسكو بـ6 من هولاء الأفذاذ في مجالات مختلفة، ونحترم  الإنسان العماني المُسالم الذي صار مضربًا للمثل في الأخلاق الرفيعة والوحدة الوطنية ونبذ المذهبية والطائفية، ونعشق 11 محافظة؛ كأنها عقد من اللؤلؤ الثمين يحتوي على 61 لؤلؤة؛ عدد ولايات سلطنة عُمان. وتعجبنا سياسة عُمان الخارجية والتي تجنح للسلم والهدوء والحكمة والعقلانية، وتثير إعجاب العالم.

في نوفمبر الذي نحتفل فيه بالعيد الوطني، يحدونا الأمل في الانطلاق نحو آفاق جديدة ونحن ندلف إلى العام الـ52 من عمر نهضتنا.. نحن بخير والحمد لله وخلال الأعوام الماضية حدثت إنجازات مذهلة وكثيرة إذا علمنا أن البداية كانت من الصفر، وأن مساحة بلدنا شاسعة وتضاريسها صعبة، وأن القضاء على بعض تراكمات الماضي غير المرغوبة كان الأكثر صعوبة، فضلًا عن إعادة اللحمة والوحدة والتأليف بين القلوب، وبسط الأمن والأمان في ربوع الوطن، كل ذلك نعمة كبرى لا توازيها نعم أخرى، خاصة إذا نظرنا إلى العالم من حولنا؛ حيث الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي والأمراض والمشكلات في بعض المجتمعات من جرائم القتل والاغتصاب والسرقة والتشرد والسطو المسلح والفقر والبطالة، إلا أننا بفضل الله في خير ونعم وفيرة.

لكن ومع أن الوقت، وقت فرحة واحتفاء بما تم إنجازه وهو كثير، كما أسلفت، أرى أن الوقت وقت وقفات للتأمل العميق أيضًا والمصارحة والمكاشفة وتقديم جرد حساب بعيدًا عن التهويل؛ إذ إن القول إننا وبعد 51 عامًا من التنمية لا ينقصنا شيء وأن أحوالنا تمام التمام وكل شيء على ما يرام، قول غير مكتمل، فهناك مشكلات لا يُستهان بها يعاني منها المواطن العادي، فمثلًا: هل نستطيع أن ننفي وجود فقراء في المجتمع وأصحاب الدخل المتدني وأسر الضمان الاجتماعي التي لا يكفيها ما تحصل عليه؟ هذا مع الاعتراف بالمميزات التي تنالها هذه الفئة، مثل الإعفاء من بعض الرسوم والعلاج المجاني وبناء مساكن لهم وتعليم أبنائهم في مؤسسات التعليم العالي على نفقة الدولة، بغض النظر عن المجموع الذي يحصلون عليه في دبلوم التعليم العام  وتزايد أعداد الباحثين عن عمل. ومع تقدير الجهود الكبيرة لحل هذه المعضلة لكنها تبقى قائمة؛ لأنها تُركت لتتراكم، كما إن مسلسل التسريح ما زال مستمرًا، وغلاء الأسعار وارتفاع بعض الرسوم، مع تقدير الناس للتوجيهات الكريمة لجلالة السلطان المفدى- أيده الله- بتخفيض بعض الرسوم، لكن بقيت بعض الرسوم عسى أن يشملها التخفيض أو الإلغاء، أيضًا ضريبة القيمة المضافة التي صارت مطية للمبالغة في رفع أسعار كل شيء. ورغم أن الخدمات الصحية معنا جيدة- والحمد لله- وتُقدم بالمجان للمواطن رغم ارتفاع تكلفتها على الدولة، ويدرك ذلك من جرب السفر إلى الخارج طلبًا للعلاج، لكن ألا تحتاج المنظومة الصحية للتطوير حتى لا يحتاج المواطن للسفر للخارج من أجل العلاج؟ لماذا لا يحدث العكس وأن يأتي الناس للعلاج معنا بعد أن تُوجد المقومات الجاذبة لطالبي العلاج؟ وذلك بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، من خلال تسهيل الإجراءات لاستقطاب الاستثمارات في قطاع الصحة، والاستفادة من السياحة العلاجية؟!

وعندما نتحدث عن التعليم، نسأل: هل يحتاج إلى إصلاح شامل؟ وماذا عن قطاع السياحة؛ هل نحن راضون عن هذا القطاع رغم وجود المقومات السياحية الهائلة، لذلك أناشد الجهات المختصة أن تخفف من الإجراءات والروتين والمبالغة في الرسوم لجذب المستثمرين. وتحضرني هنا حكاية المستثمر الأجنبي والتي أخبرني بها سائق سيارة الأجرة الذي ينقل الناس من المطار؛ حيث اتفق مع هذا السائق على أن يمر عليه كل يوم في مقر سكنه لينقله إلى الجهات المعنية بإنجاز معاملات الاستثمار في المنشآت السياحية، وكان هذا المستثمر في قمة الحماس، لكن بعد مدة قصيرة طلب من السائق أن يُوصله إلى المطار؛ وهو مُحبط من الإجراءات الطويلة والمعقدة ومن الرسوم الباهظة، وقرر التوجه إلى دولة أخرى للاستثمار!!

أيضًا نسأل: ماذا عن الصناعة في بلدنا، هل هي قوية بحيث تخلق فرص عمل للشباب وترجح كفة التصدير على كفة الاستيراد؟ وماذا عن الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية؟ وهي كثيرة ومتنوعة وقطاع التعدين الذي يفترض أن يرفد ميزانية الدولة بمبالغ صخمة، عوضًا عن أن المبالغ التي يعلن عنها الآن وهي مبالغ زهيدة تثير تساؤلات كبيرة. وماذا عن الأسماك والإنتاج السمكي الوفير؟ ما نسبة مساهمة هذا القطاع في الاقتصاد الوطني؟ ولماذا ترتفع أسعار الأسماك في مناطق من السلطنة دون أخرى؟ ومن الذي يتحكم في أسعار الأسماك؟ وماذا عن  خيرات البحر الأخرى والرياضة البحرية واستغلال الشواطئ للجذب السياحي؟

وفي قطاع الزراعة: متى سنُحقق اكتفاءً ذاتيًا ولو في بعض المنتجات الزراعية؟ وهل ستجد الثروة الحيوانية الاهتمام الكافي؟ ولماذا لا يتم دعم الأعلاف الحيوانية من أجل أن تنخفض أسعارها المرتفعة؟ وقد سبق أن كتبت عن مشكلة غلاء أسعار الأعلاف مقالًا كاملًا، وتحدثت عنها في إحدى الإذاعات، ثم انخفضت قليلاً، لكنها عادت للارتفاع مرة أخرى!

تساؤلات كثيرة لا تُطرح من أجل التشكيك في المنجزات الكثيرة، ولكن حتى يتم تدارك الموقف، والبناء على ما تمَّ إنجازه والانطلاق بقوة نحو المستقبل، بتفاؤل وأمل.

كل نوفمبر وعُمان الجميلة الرائعة المدهشة في تقدم وازدهار.