ما لا تعرفه عن نبيك (1)

 

نبيُّ الرحمة والسلام

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **

 

الصورة النمطية التي رسختها كتب السيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام صورة نبي مُولع بالقتال والغزو يتباهى بأنَّه "نبي الملاحم" يرجع من غزوة ليستعد لأخرى، كما تطغى أخبار الغزوات والسرايا والأسرى والسبايا والغنائم على أخبار العمل الدؤوب لرسولنا الكريم في تربية الصحابة رضوان الله عليهم، وغرس العقيدة في نفوسهم، وتزكيتها، وتنظيم المُجتمع الإسلامي الأول، وإدارته بالشورى والعدل ومكارم الأخلاق، وكل ذلك جوهر الرسالة المحمدية .

الحقيقة أنَّ حياة رسولنا المصطفى ليست غزوات وسرايا؛ فهذه لا تُشكل إلا المساحة الصغرى في عمر الرسالة التي دامت 23 عامًا؛ منها 13 عامًا عاشها في مكة هو والقلة المُؤمنة عرضة للأذى والعدوان صابرين على ذلك، و10 أعوام في المدينة لبناء دولة الإسلام والدفاع عنها ونشر الدعوة وتأليف القلوب وإبرام معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وغيرهم.

لكن.. لماذا طغت أخبار معارك الرسول داخل الجزيرة العربية (مع أهل مكة والمناصرين لها) وخارجها (مع الفرس والروم) على الجوانب الأخرى الاجتماعيىة والثقافية والأخلاقية والتنظيمية؟!

مرجع ذلك نشأة كتابة السيرة النبوية؛ إذ بدأت بمغازي ابن إسحق إمام المغازي والسير المتوفى سنة 151هجرية، والذي كان كثير النقل عن مُسلمة اليهود، خاصة فيما يتعلق بالحروب، والناس إنما تستهويهم أخبار البطولات والفتوحات والانتصارات بأكثر من غيرها، كما شجع خلفاء بني العباس أخبار المغازي شحذًا لحمية أنصارهم للدفاع عن دولتهم الوليدة ضد خصومهم، ومبررا لتوسيع مملكتهم باسم الجهاد.

وما كان المبعوث رحمة للعالمين حربًا على البشرية قط، وما كان ذلك سجية لصاحب الخلق العظيم، وما قاتل إلا اضطراراً في الجزيرة وخارجها، دفاعًا أمام اعتداء واقع أو في سبيل أن يقع بأمارات دالة ناطقة من باب "الهجوم خير وسيلة للدفاع".

فما كان رسولنا وصحابته الكرام محبين للقتال؛ بل كارهين له بنص الكتاب "كتب عليكم القتال وهو كُره لكم" (البقرة: 216)، كيف وهو الذي نهى أصحابه عن مجرد تمني القتال قائلًا "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية"؟!

أنت أيُّها المسلم في حلٍ من قبول مرويات تنسب لرسولك ما لا يستقيم وشمائله السامية، مثل: "بعثت بالسيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، وذلك لمناقضته الصريحة للقاعدة الربانية بأن الرسول الكريم بُعث "رحمة للعالمين" لا سيفاً على رقابهم!

كيف تقبل أيها المُسلم حديثاً يصور رسولك لا همَّ له إلا سلّ السيف من أجل رزقه من المغنم؟! فالحديث ضعيف سندًا ومتنًا، ولا يغرنّك تصحيح الشيخ الألباني له، فهو واسع الخطو في تصحيح الضعيف لمجرد كثرة الطرق. كما لا عبرة بتحسينه لحديث "يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح"، الذي رده مُفتي مصر د. شوقي علام لأنه ضعيف سندًا ومتنًا.

إن نبيك "نبي الرحمة" حقًا وصدقًا لا "نبي الملحمة".

استمع للصحابي جعفر بن أبي طالب، يرد على النجاشي ملك الحبشة، لتعرف نبيك حقًا: "أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ويأكل القوي منِّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولًا منِّا، دعانا إلى الله نوحده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزُّور، وأكل مال اليتيم".

ثم اسأل نفسك: هل هذه أخلاقيات نبي مولع بالقتال يحب سفك الدماء يتباهى بأنه نبي الملاحم؟! ولا تصدق أيها المسلم أن رسولك أمر بالاغتيال غدرًا أو أقر ما سماه الفقهاء لاحقًا "جهاد الطلب".

وبعد أن قال المولى "لا إكراه في الدين"، فلا عليك من حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا".

ولمعترضٍ أن يتساءل: ماذا عن مذبحة بني قريظة؛ 900 يهودي، ذبحوا كالنعاج؟!

والجواب: ذلك من تهويلات مُسلمة اليهود، واليهود بطبيعتهم وعبر تاريخهم مولعون بنزعة تضخيم أعداد قتلاهم لدى الطرف الآخر لأهداف سياسية (عقدة المظلومية)، وتأكد أنه لم يرد في الصحاح عدد صحيح، وروايات أصحاب المغازي مضطربة متضاربة غير منطقية، والصحيح أنَّ الرسول أمر بتنفيذ حكم القتل في17 يهوديًا مُقاتلًا بجريمة "الخيانة العظمى"، كانوا رؤس المقاتلة، خانوا ونقضوا وحاربوا، أما البقية فقد أسروا أو أخذوا سبايا، بنص القرآن "فريقا تقتلون وتأسرون فريقا"، راجع الفيديو التوثيقي الرائع لعدنان إبراهيم و"محمد رسول النور والسلام" للباحث الإماراتي حسين غباش رحمه الله.

** عميد كلية الشريعة والقانون سابقًا بقطر