الفكر الآخر وأهميته

 

يحيى الناعبي

 

 

تجربة الانغماس والمُشاركة في تجربة الحياة مع الآخر، تكشف الكثير من المعرفة، لكن الأهم منها هو أنها توجه الفرد نحو الفكر المُحايد الذي تتوسع دائرته مع الزمن، فبالرغم من دور عالم الإنترنت في التأثير على حياة الأفراد وانعكاس ذلك على حياتهم الاجتماعية، إلا أن تجربة العيش غالبًا ما تكون مختلفة.

فالبيئة التي تتنفس هواءها لها دور في تحوّر الطريقة التي تبني عليها أفكارك وتعكس رؤاك، أيضاً تساعد على خلق أسلوب المقارنة بين عالمين. العالم الذي نشأت عليه فترة من حياتك وقراءتها بعالمك الحالي عبر درجات من الاختلاف والتوافق. والتأثير الذي تولده البيئة المحيطة له دور رئيسي في تشكيل حياة الفرد، حتى وإن اختلف في مدى معرفته وإدراكه لأنه بذلك يكتسب الجانب النظري من المعرفة دون الحسي والتطبيقي. وبالتالي تتغير نظرة الفرد نحو الآخر والعالم من حوله بمجرد تغيير البيئة التي يتعايش معها. وقد يضع البعض هذا التغيّر في خانة التقييم بين الإيجاب والسلب، لكن من وجهة نظر فردية أن الإيجاب والسلب هي عبارة عن محاولة لإقناع الذات لفعل أو ترك فعل مُعين يتوافق أو يتعارض مع المصلحة الشخصية أو العامة في حالة صدورها من قبل الشخصية الاعتبارية كالمؤسسة أو من ينوب عنها.

إن التعددية الفكرية والاختلاف في محيط الرأي يكسب الفرد الثقة في أهمية توسيع دائرته المعرفية، خصوصا إذا كان ذلك متبوعاً بحرية الرأي والاختلاف طالما أنه نابع من التفكير والتساؤل الذي يشكّل أصل الحياة البشرية ومستمر حتى "يرث الله الأرض ومن عليها". وكم هو جميل عندما تتوسط أفكار مختلفة ومتناقضة أو قد تتوافق في جوانب معينة وتختلف في أخرى، أليس في الاختلاف رحمة؟! لذلك وللأسف فعندما ضيقت بعض المجتمعات حرية السؤال وحجمته في حدود الأوصياء، ضعفت الأمم وزادت السلوكيات والتصرفات الخفية التي تعتبر مرفوضة وغير مقبولة من قبل الأوصياء في المكان. في حين لو تمَّ مناقشتها على السطح بشكل منظم لساعد هذا الوضوح في حل الكثير من القضايا.

عملت الوصاية الآيديلوجية على خلق نمط شخصية مزدوج عند الكثير، فأصبح للفرد أكثر من شخصية في سلوكه يقوم بتقمصها في اليوم الواحد. كما إنها لم تؤثر فقط على الفرد العادي بل حتى ممن لهم اهتمام بالثقافة والوعي، وأضعها بين قوسين لأنَّ هذا المفهوم أو المصطلح غير موجود في المجتمعات التي تؤمن بالفكر الحر، فلا يوجد فرد من أفرادها يبات ليلته دون أن يكون قد أضاف إلى مخزون معرفته شيئا جديدا سواء على مستوى اهتماماته وميوله أو على مستوى المعرفة العامة. وقد ساعد على ذلك، الطريقة التي تتلصص بها التكنولوجيا الحديثة على الأفراد، فما أن تفتح حاسبتك أو حتى هاتفك المحمول لقراءة موضوع ما، حتى تنهال عليك الدعايات المتعلقة بنفس الموضوع ولكن من مصادر مُختلفة.

والتفكير الحر يقودك إلى ممارسة الإشغال الذهني في عوالم كثيرة، قد تكون بعضها محرمة في مجتمعات أخرى بسبب الوصاية الفردية والتفكير الجمعي العقيم الناتج عن التبعية العمياء والتي لم توصِ بها أي من التعاليم السماوية ولا البشرية.  كما يقودك الفكر الحر إلى احترام الآخر؛ أياً كان وضعه المعرفي أو الموقع الذي ينطلق منه، وأقصد هنا مراحله التعليمية أو العمل الذي ينتمي إليه. هذا بكليّته ساعد على حل الكثير من الإشكاليات المعرفية العالقة في الأذهان ومن ثم استطاعت المجتمعات تجاوزها.

نعلم جميعًا أن المجتمعات في تطور مستمر وأن دائرة الفكر والمعرفة والإدراك لها دور عندما تتاح لها مرونة التعامل وعدم فرض قيود على الذهن. ولولا ذلك لما وصلت البشرية إلى ما هي عليه اليوم من تغيّر في جوانب مختلفة. يجب الإيمان بالفكر المختلف وطرحه ومناقشته حتى نستطيع استخلاص محتوياته، وأيضًا يساعد الآخر على صنع قراراته حول موضوع أو خيار ما بناء على المناقشات التي دارت حوله.

إنَّ حواس الإنسان تمثل عوامل رئيسية في التساؤل، فمن له الحق أن يجمّد حواس الآخر تحت أي مسمى أو ظرف. على المجتمعات أن ترقى بأنفسها بالنأي عن التعصب والتحيز نحو آراء لا تمثل الجميع بل تمثل أصحابها ورؤاهم الشخصية فقط، لتعممها على هيئة قوانين ونظم للجميع.