البعيدُ عن العين بعيدٌ عن القلب!!

 

د. صالح الفهدي

كاد رئيسُ الوحدةِ أن يوقِّعَ على قرارٍ بتعيين أحدَ الكفاءاتِ في منصبٍ يوافقُ قدراتهُ فإذا بنائبهِ يعترضُ -وهو صاحبَ نفوذٍ في الوحدة- على القرار بحجَّةِ أنَّه لا يعرفُ –حضرتهُ- الرَّجل ويخشى أن لا يكونَ على قَدْرِ المسؤولية، ولم يكن في الباطنِ ذلك هو قصده!!

لقد كوَّنَ النائبَ عُشَّاً ربَّى فيه أفراخهُ، وأطالَ لها أجنحتها المزخرفة، وكلما وَجَد لأحدها من قمَّةٍ شاغرةٍ أطلقها لتحطَّ فيها وتربِّي هي أعشاشها أيضاً، ليس لأنه كفؤٌ لصناعةِ القادة، ولا لأن أفراخهُ ذات كفاءة، ولكن لأنها صنيعته التي ضمنَ ولائها الأعمى، وهكذا استطاع أن ينشرَ من صنعهم على رأس المديريات والدوائر!!

لقد صدقَ المثل العربي القائل "البعيدُ عن العينِ بعيدٌ عن القلب" فكم أُقصي من كانوا بعيدين عن العين، بعيدين عن القلب من مناصبَ هم أَوْلى وأجدرُ بها، وكم عُيِّنَ القريبون من العينِ ليس لأنهم أكفأ ولكن لأنهم قريبون من القلبِ! ولنا أن نتصوَّر كم من الكفاءات لم تُمَكَّن من خدمةِ وطنها لأنها لم تَرُقَ لصانعِ قرارٍ، أو لأنها ليستَ قريبةً من قلبه، والوطنُ هو الضحيَّةُ دون شك، فقد اختزل مجملَ الأمرِ في نظرةٍ ضيِّقةٍ لإِنسانٍ قدَّم مصلحته الشخصية على مصلحةِ وطن.

يروي أحد الوزراء في دولة خليجية أنَّه كان يعملُ لدى شركةٍ معيَّنةٍ يؤدي فيها عملهُ بكفاءةٍ عاليةٍ، وإخلاصٍ تام، وبعد فترةٍ عيِّنَ في منصبٍ معيَّنٍ بأمرٍ من رئيس الوزراءِ في تلك الدولة، فاستغربَ كيف جاءَ تعيينه من رئيس الوزراء والأخيرُ لم يطَّلع على أدائه، فنصحتهُ أُمُّهُ بتقديم واجبِ الشكرِ لرئيس الوزراء، فتردَّد أكثر من شهر لذلك خوفًا، ثم ذهبَ متوترًا وسلَّم على رئيس الوزراء في مجلسه العام وألقى عليه كلمةَ شكرٍ كانَ قد حفظَ كلماتها حفظًا، قائلاً: "أنتَ لا تعرفني ولكنك عيَّنتني في منصبٍ معين بالشركة الفلانية لهذا وددتُ أن أشكرك" وهبَّ واقفاً لينصرف من مكانه، لكن رئيس الوزراء شدَّ مِرْفقهُ قائلاً: "بل أنا أعرفك منذ فترةٍ طويلة، فانظر لذلك الرجل"؛ فنظرَ فإذا بالرَّجلِ قد جاءه في يومٍ من الأيام لأداء خدمة فقدَّمها له، ثم أضاف رئيس الوزراء: "إن ذلك الرجل هو أداةٌ من أدواتي لتقييم أصحاب الكفاءات في أدائهم لأعمالهم، وأخلاقهم، وتعاملاتهم مع الآخرين"، إن هذا الرجل الذي كان محلَّ النظر والمراقبة طوال سنين يشغلُ اليوم وزيراً في تلك الدولة.

الشاهدُ من هذه القصَّة أنَّ كلَّ صانع قرارٍ لا يجب أن يؤْثِرَ دائرته الضيِّقة بالمناصب لأنه يستشعر بولائهم وإخلاصهم؛ بل إنه يملكُ من الطرق والوسائل ما تزوِّدهُ بأصحاب الكفاءات الصالحة للمناصب استتنتاجاً من مواقفَ، وتجاربَ، وخبرات، كلها تصبحُ سنداً لقرارهِ إن أرادَ تعيينهم في مناصبَ قيادية تتوافقُ مع قدراتهم، وكفاءاتهم، وأهليتهم.

وعودةً إلى الحديث عن ذلك النائب الذي كوَّنَ أعشاشاً ليربَّي فيها أفراخه، فقد ظلم كثيرين من أصحاب الكفاءات القديرة لأنهم لا يوافقون هواه، ولا يشابهون طبعه، وهمَّشَ من يستحقون التقديرَ لكي (يخلو الجوُّ) له ولأصحابه، والسؤال: هل أرادَ هذا الرجل خدمةَ وطنهِ بذلك الصنيع؟ لا والله وإلاَّ ما كان قد وضعَ المقرَّبون منه في مناصبَ رفيعة..!

هنا أقول لكل صانعِ قرارٍ: إنَّ من تعيِّنهُ إنَّما يعكسُ شخصيتكَ، وطريقتك في القيادة، وتوجهاتك في الإدارة، فيكونُ محسوباً عليك في نجاحهِ أو فشله، لهذا فحرصك على انتقاءِ الأصلحِ هو مبدأٌ لا يجب التنازلُ عنه.

أنتَ تملكُ وسائلَ لتميِّزَ الكفؤ من غيرهِ، ولتمحِّص الصالحَ من الطالح، وقد يكون بعيداً عن عينكَ، ولم تسمع به قط، فلا تجعل وسيلتك إليهم دائرتك المقرَّبة لأنها قد تصدقك النصيحة وقد لا تفعل لحاجةٍ في نفوسهم.

إِذا كُنتَ في حاجَةٍ مُرسِلاً ..فَأَرسِل حَكيماً وَلا توصِهِ

وإنَّكَ لا تُعدِمُ الوسائل التي تُظهِرُ بل تنبشُ لك أهل الجدارة والأهلية للمناصب التي تريد تعيين من يجدرُ بشغلها، والقيام بواجباتها خير قيام.

وَإِن بابُ أَمرٍ عَلَيكَ اِلتَوى .. فَشاوِر لَبيباً وَلا تَعصِهِ

لا يجبُ أن تجعلَ إفادة نائبكَ، أو وكيلَ وزارتكَ أو الأقرب إليك هو قناتك الوحيدة لمعرفة الأفضل في الكفاءات بل اجعل لك مقيِّمين مخلصين ليس لهم من مصلحةٍ يقدِّمون إليك خالص المشورة، وسديد الرأي فيمن هو مناسبٌ لمنصبٍ من المناصب، حتى إن وضعته في مكانه الصحيح قال العقلاءُ من الناس: ونِعم من اختار فهو الأجدرُ والأنسب.

إن تسليم أمرَ الاختيار لمن لا يُحسن آليات الإختيار أو أنه يقدِّم أصحابَ الولاءات لشخصهِ، ويقصي الجديرون الأكفياء، إنما هو خطأٌ جسيمٌ والوطنُ قد يتحمَّل أخطاءً كثيرةً إلاَّ خطأَ وَضْعِ شخصٍ غير كفوءٍ في مكانٍ ليس جديراً به ففي ذلك ما فيه من الخسائر الفادحة التي لن تعوَّض!