عائشة السريحية
ما زالت تلك الصرخات من أفواه الشعوب تتردد بصدى التغيير في مسامعي، كنت أتسمر أمام التلفاز أتصفح اللهيب المنضرم في أرجاء الوطن العربي، الدماء التي تلطخت به أرصفته، ووقع أقدام المصورين يجرون أنفاسهم لاهثين يبحثون عن حدث يرصدونه، تأججت الأنفس واشتعلت نيران الثورة، تتردد في الأرجاء فليسقط النظام، يسقط النظام.
وضعت الأحلام على قواعد الحشد، بيعت الأمنيات بثمن غال، بيعت بالدم. وانقسم الناس ما بين مُؤيد ومعارض ومعتزل، قنوات الأخبار تبث كل يوم خبراً جديداً، قتل الزعيم، أسر الزعيم، هرب الزعيم.
هكذا بدأت عناوين الأخبار، وهكذا بدأت تتلاشى تلك الموجات الغاضبة، واستلم اللاشيء الثمن، سقط النظام وسقطت معه كل تلك اليافطات التي زرعت ووزعت، واستبدلت بأوضاع اقتصادية متردية، وحال لا يختلف كثيراً عما كان عليه، بل في بعض البلاد فقدت كل معاني النظام، واستمرت النزاعات وهرب النَّاس ما بين لاجئ ومستجير، وبدأت الصورة تتضح أكثر بعد أن خف ضباب قنابل مسيلات الدموع، وبدأ الناس يشعرون بخيبة الأمل، لم يكن هناك ربيع سيزهر ولم تكن هناك ثمار ستقطف، ولم تكن هناك أمنيات الثراء والقضاء على الفقر والواقع الاقتصادي، ولم تختفِ المديونيات الخارجية ولم ترتفع الميزانيات العامة للدول، لم يتبقَ سوى آثار الجراح التي أثخنوا بها، وبين هذا البلد وذاك خف إعصار الحرب، لكنه تمخض عن سراب ظنوه ماء، عشر سنوات بعد أول شرارة انطلقت حين أحرق البوعزيزي نفسه، وحين طويت ملفات زعماء كانوا شماعة الحظ الأسود، وألقى عليهم بكل مبررات الثورة، ولكن النتيجة اليوم بالمنظور العام لا تختلف كثيرًا عن حال الشعوب قبل 2011.
إذن لماذا قامت هذه الثورات؟
الإجابة، يرد عليها الواقع فليس الأمر محل نقاش بين منظرين أو برنامج تلفزيوني بنقيضي رأي، إن الواقع المرصود بأعين الناس وعدسات الكاميرا يثبت أن الجو العام لم يتغير، الشوارع مازالت كماهي والموظفين يرتادون مواقع العمل ذاتها، والقانون مازال جله قائمًا، بائع الخضرة في أحد شوارع البلاد العربية هو ذاته قبل بضع سنوات يبيع البطاطا والسلطة ويخبرك بالتسعيرة التي ربما زادت وفق غلاء المعيشة.
وهذا للبلاد التي كانت أوفر حظاً، أما بقية البلدان التي عانقها ذلك الربيع بمخالبه، مازالت تعيش بين حجري الرحى، ومازالت قطرات الدماء تتسرب بين حين وآخر، وما زال المصير المجهول والنظام غائب ليسدل الخراب والعشوائية ستارهما.
لقد كان السبب اقتصادياً بحتاً، تصاعد الغضب وخرج كمارد القمقم، كل الأمنيات التي أرادها كان تحسين المستوى المعيشي للفرد والمطالبة بالتغيير نحو الأفضل، كان أبسط الطرق للتعبير عن الغضب هو الغضب ذاته، الغضب من الفقر الغضب من قلة الحيلة الغضب من البيروقراطية، الغضب من الواسطات والمحاباة، الغضب من التنمر الاجتماعي من قبل بعض الأفراد الذين يمتلكون مناصب ويجيدون استغلالها، وهكذا تراكمت كميات الغضب شيئاً فشيئاً واستفادت من ذلك التيارات السياسية المعارضة ثم انفجر البركان، والذي لم يكن سوى صرخة غضب لم تمتص.
لكن ما الثمن الذي دفعته الشعوب نتاج خيارها في لحظة غضب؟
نقص من عدد الرجال آلاف، وزاد عدد الأيتام آلافا، والأرامل، والثكالى آلافا أخرى، وزادت ربما توزيعات المنظمات الخيرية بسبب ازدحام كشوفاتها، بأسماء المعاقين والمعسرين والمتضررين من آثار الحرب، وربما زادت أعداد المهاجرين والموتى الغارقين على سواحل أوروبا، وربما زاد عدد الجمعيات الخيرية أيضا التي تجمع ما تبقى لتعطي من تبقى.
بعد عقد من الزمن.. نسأل: أين عناقيد السعادة الموعودة؟ أين التغيير الذي بيع على أرصفة الطرقات بمنشورات وحكايا في خيام الاعتصامات؟ أين النجاح الذي حصدته أسر من سالت دماؤهم؟ أين الأزهار في ربيع دموي؟!