عودة للنوايا الأولى للتنمية


يحيى الناعبي

إن تتبع الأبجدية الزمنية في مسار التنمية الحديثة لما بعد 1970 في بعض الجوانب وخصوصا الرئيسية منها على سبيل المثال النقل والإسكان، نجد أنها واجهت تعرجات وتراجعات مؤثرة غيرت الوجهة التنموية المرجو منها لتصبح سببا رئيسيا في تراجع النمو الاقتصادي وقضايا أخرى مرتبطة بهذا الشأن.

لقد بدأت خطط الحكومة بمسار مُستقيم يحثّ على خطوات تنموية جادة. كان الاستعانة بالخبرات العربية متوافقة مع تلك المرحلة، خصوصا أن التعليم في عُمان كان في مراحله الأولى، فلم يكن لأفراد المجتمع القدرة على التواصل سوى باللغة العربية. أيضاً هناك جوانب أخرى تخدم العلاقات مع الأشقاء في الدول العربية والتجربة المتقدمة نوعاً ما في مضمار التنمية آنذاك. بالتالي فالبداية كانت موفقة جدا.

سوف أتناول في هذه العجالة قراءة للتحولات التي حدثت في منظومة كل منها.

الإسكان: بدأت وزارة الإسكان خطواتها التي توائم التوزيع الجيوسياسي في الولايات، وخصوصا أن إرهاصات القبلية وبقايا الصراع الداخلي- حينها- لم يزل قائمًا وبقوة، وما خلفته التراكمات التاريخية لهذا الصراع. بالتالي كان توزيع الأراضي على المُواطنين بمساحات محدودة تقدر (400) متر مربع للأرض الواحدة. أذكر أنني سألت أحد المهندسين عن السبب، فأجاب بمنطق تام: حتى تستطيع كل ولاية تغطية احتياجات طلبات سكّانها مع الحرص على ما تبقى للأجيال القادمة.

ما حدث بعد ذلك وتحت إشراف مهندسين محليين كثرت التوصيات والمحسوبيات، والكثير من التوزيع الخارج عن المسؤولية أدى إلى اقتحام الأماكن الخطرة للسكن كالوديان والشعاب المائية التي انعكست أضرارها على المواطنين والدولة. كما سبب ذلك أيضًا غياب التنسيق بين المؤسسات الخدمية الأخرى كالطرق والكهرباء وتوزيع المياه الحكومي أو العام، المدارس، المراكز الصحية، مراكز تسوق وغيرها من الخدمات الضرورية. لو استطاعت المؤسسة الرسمية والمسؤولة عن تخطيط المدن تشغيل الجانب اللوغاريتمي في وضع الفروق بين الإيجابيات والسلبيات قبل فكرة ولادة كل منطقة سكنية جديدة وما يجب العمل به، لوفر ذلك المبالغ الكبيرة في خزينة الدولة والمواطن. وأصبحت هناك مدن عصرية كما هي موجودة في دول العالم الحريصة على الذوق الحضاري.

لذلك أعتقد الاستعانة بتجربة أكثر تطورًا وهي خلق مجمعات سكنية بعيدة عن جريان ومصاب الأودية وبتصريفات مائية متينة مزودة بالخدمات الأخرى التي ذكرناها سلفاً بشكل منظم يقلل من الأضرار والتكاليف. بحيث أن هذه المجمعات متقاربة كحلقات تصل بعضها بالآخر. وهو أفضل بكثير من التوزيع الحالي الذي يتسم بالعشوائية والفوضوى. فقط من أجل المحسوبيات والتفاضل.

النقل: في الثمانينات وبداية التسعينيات كان تنظيم النقل عالي الجودة في عُمان، كانت مواعيد النقل العام منضبطة في مواقيتها بحيث يستطيع المستخدم جدولة وقت خروجه وعودته بما يتناسب مع أوقات مواعيد وصول حافلات النقل الوطني آنذاك، مع وجود مظلة عند كل محطة. لم نشهد حينها اختناقات مرورية كما نشهده الآن. أيضاً كانت مواصلات المؤسسات الحكومية تضّم في جوفها عشرات الموظفين الذاهبين إلى دوائرهم الحكومية. كان ذلك بمثابة أسلوب حضاري لدولة ناشئة مثلما هو موجود حتى الساعة في باقي دول العالم. ولو بقت ثقافة سياسة النقل العام لوفرت الدولة مبالغ طائلة للميترو وللقطارات بعيدة المدى بين المحافظات العمانية. ووفرت مبالغ كبيرة للاحتياجات الرئيسية الأخرى كالتعليم الداخلي والبعثات التعليمية وللصحة والمشاريع التنموية الأخرى.

 لكن وللأسف تغليب المصلحة الشخصية تحت مسمى (المصلحة العامة) خلق عجزا ماليا كبيرا بسبب توزيع الطرق العشوائية والمليئة بالأخطاء في التصاميم وفي الأهداف. إضافة إلى الحوادث المرورية والاختناقات المرورية المستمرة التي تعطل سير العمل ولا تتناسب مع مناخ السلطنة الحار جدا. كذلك المصاريف المترتبة على استنزاف الوقود والكثير مما يتعلق باستخدام المركبات. لذلك كنّا نواكب مسيرة متحضّرة في جانب النقل على الأقل ولكن أبينا ألا نستمر في ذلك للأسف.

لذلك، أعتقد من الضروري جدًا تدارك الأمور والتفكير في النقل العام بآلية أكثر تطورًا حتى لا تتفاقم الأزمة أكثر وأكثر لأن المؤشرات تدعو إلى الأسوأ. أيضا العالم يتجه حاليا نحو استخدام الطاقة النظيفة، ولو بادرت السلطنة في استخدام الطاقة الشمسية المولدة للكهرباء في النقل العام الداخلي سواء (الميترو) أو حافلات النقل سيمثل ذلك نقلة نوعية. أعتقد أنه آن الأوان أن تكون النوايا مثل السابق فيما يتعلق بالمشاريع الوطنية.