الشطرنج.. وإدارة مؤسسات العالم الثالث

عائشة السريحية

لعبة الشطرنج تعتمد على اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة واعتماد استراتيجية معينة في اللعب، تطيح بالخصم، وفق ذكاء اللاعبين، ولا مجال- بعد اتخاذ خطوة مميتة- لأن يتراجع اللاعب عنها!

الوطن العربي خلال العقود التي تلت خروج الاستعمار الأجنبي من أراضيه، اعتمد على استيراد أنظمة للحكم والإدارة من المستعمر الأجنبي دون التفكير في استعداد الشعوب لتلقي النظامين الرأسمالي والاشتراكي، ثم جرت قولبة هذه السياسات ضمن مُعطيات غير حقيقية أو منطقية ليتم تطبيقها على بيئة غير مستعدة لتطبيق هذه الأنظمة فكانت بعض الشعوب تتزعم الديمقراطية مثلاً كواجهة بينما الحكم فيها ملكي بحت، وكذلك الحال في النظام الاشتراكي الشيوعي.

ونظرًا لأنَّ الوطن العربي يختلف جذريًا عن الشعوب الغربية، فلم تستطع هذه الأنظمة الصمود فتهاوت نظامًا بعد آخر، ليس لأنَّ الأنظمة الغربية فاشلة، ولكن لأن الثوب لم يكن ليتسع لتفاصيل البيئة العربية التي عاشت مئات السنين متعودة على نظام القائد الواحد والقبائل المتفرقة والطوائف والمذاهب المختلفة.

التجربة السنغافورية أثبتت أنَّ هناك خصوصية لكل بلد تنطلق منه معايير النظام والاعتماد على مُعطيات البلد بصفة خاصة، فسكانها الذي يصل تعدادهم إلى خمسة ملايين، هم خليط من الصينيين والمالاويين والهنود وآسيويين من ثقافات مختلفة والقوقازيين، كانت في مرحلة سابقة تعد من أكثر الدول افتقارا للموارد وفي مدة زمنية استطاعت من خلال خلق مورد الكفاءة البشرية واعتبارها أهم الثروات الوطنية التي وضعت قانون الأولوية للجدارة والكفاءة والاستحقاق على رأس قائمة التشكيل الإداري فيها، فاستطاعت أن تطور نظاما تعليميا يخدم الجميع، وخدمات مدنية متطورة تضمن فعالية العمل الحكومي، وترفع مستويات الإنتاجية الوطنية، سعياً نحو التنمية المستدامة، والتغلب حتى على افتقارها لوجود عنصر الحياة ألا وهو الماء.

تحريك قطع الشطرنج في الإدارة بدءًا من المستويات الدنيا والحفاظ على الكفاءات وتطويرها كان هو الخلطة السحرية التي استخدمت في هذا البلد الآسيوي وجعلته في مصاف الدول.

التعليم والاعتماد على الكفاءات الحقيقية، بينما في معظم بلدان الوطن العربي بل ودول العالم الثالث نجد أن هذا المعيار يحبو حبوا، ونجد الاهتمام بالشهادات الورقية التي ربما قد يكون الكثير ممن حصلوا عليها، لا يمتلكون من العلم والكفاءة ما يجعلهم مستحقين لهذه الألقاب، يتصدرون المشهد دون تحقيق فعلي في مدى كفاءتهم.

لو افترضنا أنه تمَّ التغيير في أماكن قطع الشطرنج وخلقت هيئة ذات كفاءة رفيعة المستوى بعيدًا عن الترشيحات والتوصيات، وبدأت تعمل على فلترة الموظفين في كل قطاعات الدولة وتدوير الأماكن والوظائف بحسب القدرات العليا والكفاءات، سيتغير فيها الخط الزمني التسارعي للتطوير، لن نجد ذلك الذي لا يفقه حتى في أولويات عمله سوى ما أملاه عليه الزمن والروتين، فيظل يحشر الأوراق في مكتبه، ويسير فيها ما يعيه بفهمه البسيط ويعطل عقله عن العمل الإبداعي.

الافتقار في بيئات العمل لعقول تفكر خارج الصندوق، يُعطل سلسلة كبيرة من التسارع التقدمي في ظل مجتمعات ودول تقدِّر قيمة الوقت والجهد، ونظل نعيش على أمل أن تتقدم السلحفاة وتسبق الأرنب، ووجود هيئة لإعادة تقييم الموظفين في مختلف القطاعات سواء الحكومية أو القطاعين الخاص والمختلط وكل مؤسسات المجتمع المدني، هي فرس الرهان ليلحق الركب بمن سبقوه. فالخط الأول الذي ينهار هم جنود الشطرنج الذين يتقدم بهم اللاعب، فمتى ما أحدثوا ثغرات وتتابع سقوطهم يُصبح اللاعب في خطر محدق، واستصغار وجود موظف روتيني لا يعمل إلا من أجل الراتب آخر الشهر هو الحلقة الأولى في مسلسل تصدع الحلقات وترميمها، بينما النظرة الكلية في الاهتمام بالأصلح والأنفع أهم وأعظم من النظرة الفردية حول الأقدمية أو الواسطة أو الشهادة التي تم الحصول عليها بطريقة أو بأخرى، فتكون مثلا صلاحية هذه الهيئة تقييم الموظفين في كل المجالات وتدوير الوظائف وتحديد مدة زمنية لمخرجات التطوير الإداري.

ما يشهده العالم اليوم في جائحة كورونا جعلنا نشاهد بالعين المجردة ضياع تلقي التعليم للنشء من خلال "الأون لاين"؛ حيث نجد الأمهات يعكفن على حضور الدروس وحل الاختبارات وكأنهن هم الطلاب لا أبناءهن، ماذا سيحدث بعد عقد أو عقدين؟!

ليس هذا هو التحدي الوحيد، هناك عدة تحديات لشعوب المنطقة، لكن التغيير يبدأ من القاعدة والتي أعدها الأطفال والشباب، وإصلاح التجويفات في النسيج الإداري، وتبديل المواقع واستبدال الضعيف بالأصلح، وقد يقول قائل إنه أمر صعب لكنه في الحقيقة ليس بمستحيل.

العالم يتسارع وما نراه ينطبق على أفراد فهو أيضًا من ناحية عالمية ينطبق على الدول فلن تستطيع الصمود في وجه المتغيرات إلا الدول القوية والتي تعرف جيداً كيف تحرك قطع الشطرنج في داخل حدودها، وجود هذه الهيئة سيجعل كل فرد يطور من نفسه وسيرفع سقف الأفضلية وإعمال العقل بشكل إبداعي لإثبات الوجود.