ناصر أبو عون
منذ أربعين ربيعًا وبضع حبوات في طين المحروسة، كان الطفل يفرك عينيه بكِفْلٍ من آي القرآن يصبَّها الجدّ في كفيه ليستفزه من الأرض، التي استطابت أحلام البراءة عن جنبيه؛ فيستضيء وجهه بنجمات تبرق في صحن الدار، تُسبِّح من غبش الغسق حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، يستفيق من سباته بعد أن يدلق النوم من رأسه في طست الماء النائم في حضن رماد المدفأة حتى مطلع الفجر ليستقيم مصلوب العود يرتِّل خلفه (طه* مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)، فيضرب الأرض بقدميه دفعاً لشقاء منتظر في الكِبَر، وعندما تطقطق عظامه في زمهرير شهر (طوبة)، يدخل رأسه في (أكمام) جده الذي التحف سبعة أردية والسماء من فوقهن، وفي الركعة الثانية يطلق الكروان صيحته (الملك لك) يطير بأحلامه بعيدا ويعود سريعا ليردد خلفه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، فيقف شعر رأسه ساعة من قيامِ ليلة شتوية تراقِصُ فيها الرياحُ ثلاثَ نخلات مُثمرات عقِمت بموت الشيخ وخفوت مصابيح القرآن حتى انطفأت شعلتها في تلك البقعة المباركة من حارة كان تتسابق بين حيطانها أطفال مملؤة ألواحهم بنور الله.. يترسَّل الجد وتثبّت ويقف على رؤوس الآيات يتمايل الفتى ويشدو خلفه فيتردَّد صدى صوته بين جدران روحه المُختبئة في أكمام جلباب جده الصاعد إلى سدرة المنتهى على سلالم الآيات واحدة بعد أخرى ليستوي على عرش التقوى مرتعدا ومتشحا بثوب اليقين.
مضت السنون سراعا ودار الفتى في شبيبته طوَّافا يُعيدُ رسم طبوغرافيا العَالم طالباً قبسًا من علم ومؤونة عيش تضيق كثيرا وتتسع قليلا. وعلى حين غفلة من جوع للمعرفة يستقطبه العلمانيون حينًا من الدهر فلم يألَفْ ولم يُؤلَف، فولّى وجهه شطر مخدع الماركسيين فأَتلَفَ ولم يُتْلَف، فاستبق البابَ وأفلت بعد أن قدّت قميصه من دُبر وحطّ رحله على شواطئ (عُمان)؛ وقضم تفاحة المعرفة من شجرة نور الدين السالمي، واستضاء بأنوار أبي مسلم البهلاني، ونهل من معين الشيخ أحمد الخليلي حتى أينعت ثمرته.
ولأنَّ رسائل النبوّة فكرة، والأفكار لا تمرض ولا تموت، و(القدوة) فسيلة الوجود، غرسها الأنبياء بأيديهم بعد أن مشَّطُوا النفوس بـ(مدمة) الصبر، وحطموا الوثنية بـ(معاول) العقل ووطّنوا الناس على الفطرة، وأورثوا العلم {فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ}. وكلُّ فردٍ منا قمش من أخلاق محمد (صلى الله عليه وسلم)، قطعة من نور، يستضيء بها في عتمة الغاشية، وشجرة يستظل بها من لفحة الهاجرة وأينما تلفَّتَ حولك ستجد صفةً من أخلاق النبوة المُحمدية، سكنت جسدا، واستوطنت نفسا، وحلَّقت بها روح في عليين.
هنا في عُمان حيثما حللتُ ضيفاً منذ عقدين من الزمان تآلفت روحي مع الوجوه، واستطابت السُّكنى، واستطالت بصحبةٍ مُستنيرةٍ بالهَدي النبويّ تطلع من كل فجٍ عميق تنشر الخير من أقاصي ساحلها الشرقيّ حتى شواطئ المحيط الهندي، إلى سواحل زنجبار في الغرب الإفريقي؛ جاورت (مريم خلفان) السمراء البهية تبيت كلّ ليلةٍ تحت أقدام معوز، وتستطيب العيش تحت وسادة مريض يتأوه، وتستلذ الحياة مع الفقراء في براري إفريقيا.
وعلى عتبات الرحمن كل يوم أقف مأموماً خلف صديق الفجر الشيخ عبد الله العامري قائماً يصلي في المحراب حتى إذا سلّم قام منتفضاً يجلس خلف مقود سيارته يكدح منذ ثلاثين عاماً وبيده مسبحته حتى أذان العشاء، ورغم عشرين قسطرة، وجراحة قلب مفتوح مازال ينفق الكثير على أطفال المسجد، وطلبة العلم ومن جاورهم.
فإذا ما ذهبت إلى (الحاج عماد حسين باقر السيد) الشكور الحصور الذي يبيت تحت قدمي والديه، بارا بإخوته، معينا لأصدقائه، بارعا في صدقات الخفاء، لم يعرف الخصام والجفاء له طريقا، لمّاس للأعذار، سيّار في قضاء حوائج الناس، كلامه ذكر، وفعله شكر، ومزاحه عطر، وعطاؤه يُسْر.
أما إذا يممت وجهك شطر وادي بني خالد، وجدت ناصر الراشدي لينا سمحًا، ابستامته مشرقة، وروحه مستبشرة، وضحكته وادعه، يجري الكرم في أعطافه، والعيب يُخاصم طرف لسانه، والرضا يملأ أوداجه نورا وحبورا ينصح همسًا، ويناقش عقلا، ويبسط إليك طرفه كرما وتفضلا.
هنا في عُمان أينما نزلتَ وجدت سهلًا، ولقيتَ أهلًا، أكرموا وفادتك، وأحسنوا عشرتك، كلٌّ أخذ من ميراث النبوّة على قدرِ ما هو مكتوب له في لوح قضائه وقدره.