ماذا خسر العرب بالهرولة خلف جائزة نوبل؟

 

ناصر أبو عون

Nasser@alroya.net

 

سبعة أوهام ونيّف، وسراب ممتد من قلب الصحارى العربية حتى أقدام (ستوكهولم) الوديعة الأميرة النائمة في قصر من ثلج، ومازال (الأديب الفلانيّ) يحطّم ثوابت الأمة على سُلّم الصعود إلى حضرة الجائزة ليجثو تحت قدميها، ولا يغمض جفن (للروائي الأكاديميّ)، في فِراش من (شكٍّ) يتقلّب على جنبين أحدهما (ظن)، والآخر (جهل)، يخاصمه (اليقين)؛ يبحث عن شاردة مدسوسة خطتها أيدي النساخ الأولين حقدًا أو كذباً بين الهوامش والمتون في كتب التأريخ، في محاولات تغذيها نيران الشهرة الموقدة تحت قِدْر (الأنا المُتعالية)، سعيًّا لـ(تعمية) الجغرافيا، وإنكار التاريخ، والتنكّر للروايات المتواترة حول (العقيدة الدينية)، لشطبها، من الذاكرة العربية والإسلامية، والتشكيك في (إجماع الأمة) حول جملة العقائد والحقائق المتجذِّرة تحدوه الرغبة في محو كل أثر للوحدة الثقافية الجامعة والمتكئة على خاصرة التاريخ الإسلاميّ، وإلحاقها بالمركزية الغربية، متوكئا على عصا (الوهم) ويهش خراف الصمت حول قبر (الملك غوستاف الثالث)، ويسوقها إلى محراب الأكاديمية السويدية طمعًا في الجائزة، التي مازالت لجنتها تُعرض بوجهها عن كُلِّ (أدونيس) مهووس بالحداثة الأوروبية، عشيّة تقديم أوراق اعتماده المزيفة في سِفْره المعنون بـ(الثابت والمتحوّل)؛ لكن يستوعب بعد أن كرّت مِسبحة السنين أنّ الشعار المرفوع: هيهات منك الجائزة.

والسؤال المحوري المتصدر لعنوان هذه المقالة هو الجدير بالإجابة، وليس: لماذا لن يفوز بنوبل أدونيس أو يوسف زيدان، أو علاء الأسواني أو الأدباء المغاربة الأعلى كَعبا والأكثر قُرباً من الحداثة الأوروبية؟

الإجابة على هذا السؤال تسترعي لفت الانتباه إلى روزنامة من القضايا لا يأبه لها المشتغلون بالأدب العربي والمبدعون العرب الذين تأبطوا سيف الحداثة؛ واستبدلوا العمامة بالقبعة، وقطعوا أرحام إبداعهم فصار يتيما على موائد الآداب العالمية؛ بل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}.

إن فوز الإفريقي عبد الرزاق قرنح الذي تشاغلت وسائل الإعلام بالبحث عن أصوله ما بين؛ (عُمانية، وزنجبارية، ويمنيّة حضرميّة.. إلخ)، سعياً منها لستر عورة الخجل من الجهل بإبداع الرجل، ومنجزه الروائي والبحثيّ، بل شاركت في التعمية على المتابعين وتحويل أنظارهم عن (أزمة عدم المواكبة) التي تغرق فيها مؤسسات الترجمة والنشر العربية، فضلاً عن دورها في تحويل الأنظار عن عجز كتيبة النقد العربي المدججة زورا وبهتاناً بآخر صيحة من نظريات النقد الحداثوي الغربيّ، وشطحت بنا جميعا بعيدا عن المحتوى الإبداعي الذي قدّمه الرجل على مدار ثلاثين عاما، مضافًا إلى دوره الأكاديميّ في جامعة (كينت) متربعا على كرسي (اللغة الإنجليزية)؛ في بلد تولّدت فيه الإنجليزية عن عدة لهجات "أنجلو- فريزية"، وتطورت ونمت حتى بسطت سيطرتها على (عقول أهل الأرض)، وصارت "اللغة التي لا تغيب عنها الشمس".

طرقت جائزة نوبل باب عبد الرزاق قرنح لتهمس في أذن "المشتاقين" بكلمة: (كفى)، وتخرج لسانها لأولئك الذين أراقوا ماء كبريائهم على أعتاب الأكاديمية، وكسروا أنوفهم المتعالية على شعوبهم تحت أقدام لجنتها المتواضعة، سعيا لإرضاء السيد الأبيض، وأسالوا لحم وجوههم أمام شاشات التلفزة، وهم يمارسون "الاستربتيز" متبارين في تلبيس الحق ثوب الباطل وإسقاط الحدود الفاصلة بين التاريخ والأسطورة، وإذابة الثقافة الوطنية الجامعة في بحيرة العولمة الآسنة، وجزّ ثوابت الأمة بسكين حرية التعبير، وتأليب الشعوب على تراثها بالنفخ في نيران الفرقة، وتقطيع أواصر اللحمة الوطنية تحت لافتة الديموقراطية المزعومة.

وقعت تفاحة نوبل في حجر عبد الرزاق قرنح بعد أن آمن أنّ "العلم والأدب"، لا وطن له، وعابر للعقول، وجامع للمشتركات الإنسانية، ينحاز للمبادئ والقيم الأخلاقية الجامعة ولا يعترف بالحدود الاستعمارية والهويات والقوميات المنغلقة على ذاتها، ومؤكدا أنه لا مزايا تفضيلية لأية لغة على أخرى؛ فاللغة وعاء الفكر، وحاضنة الإبداع، وأداة الحوار والتثاقف الحضاري، وأنّ من يصنع قداستها وسطوتها واتساع رقعتها هو نفسُه من يحطُّ من قدرها ويستهين بطاقتها التعبيرية ودورها في التقدم العلمي.

احتضنت نوبل عبد الرزاق قرنح لتؤكد على أن الطابور الخامس من (أدعياء الحداثة، والمؤدلجون، والسائرون نياما في موكب التغريب)، أوقعوا الأمة في جُبّ التبعية الفكرية، فصرنا في رأس قائمة الشعوب المستهلكة، من إبرة الخياطة إلى المحارم الورقية، وما بينهما مليون سنة ضوئية من التكنولوجيا، والتقدم العلمي، والإبداع الأدبي غير المتكلّف، حتى صرنا نجلد ذواتنا ليل نهار، وأضحت لدينا قناعة لا تتزحزح بأن (الغرب هو مركز العالم)، وأنه لا نجاة إلا بالاندماج والذوبان في كل ما هو غربيّ وأن التقدم الحضاري مشروط بعملية إبادة جماعية للتراث العربيّ على مذبح الحداثة الغربيّة.

وأخيرا وحتى لا ندخل نفق جلد الذات لا بُد من تذكير الأجيال المتتالية بأن العرب هم من علّموا العالم، وما زال أبناؤنا النابغون يصنعون المعجزات العلمية، ويساهمون في صناعة التقدم العلمي ما بين الصين شرقا وأمريكا غربا، وأنّ المؤامرة كبرى على جميع الأصعدة، وخاصة تهيئة المناخ من قبل الطابور الخامس سعيا لتهجير الكفاءات، وقتل الخبرات معنويا، ليفوز الغرب في صراع التقدم المحموم، وتثبيت نظرية: تاريخ الغرب هو تاريخ الإنسانية وأنّ العرب والمسلمين وسائر القوميات لا تاريخ لهم ومجردون من كل منجز حضاريّ.