المدرسةُ العُمانيةُ وتلاميذُها الأبرار

 

د. حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

ليست دائماً الابتلاءات شرًّا محضًا، وعذابًا مستطيرًا- كما يظن البعض- فمن رحِم المِحَنِ تُولد المِنَح العظيمة، وفي بطن الشرّ مخبوء الخير، وربنا جل وعلا يقول:{فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، وليس بخافٍ على أحدٍ ما أصاب القُطر العماني مؤخرًا وبالتحديد في ولاياته الشمالية المحاذية للبحر من أضرارٍ، أهلك فيها الحرث والنسل؛ نتيجة لإعصار شاهين؛ فزحفت عمان خِفافًا وثقالًا، شيبًا وشبّانًا، ذكورًا وإناثًا، رِجالًا أو ركبانًا إلى وجهة واحدة وهدفٍ واحدٍ؛ ففاضت الطرقات، وامتلأت الأرض وكأنّ إعصارًا آخر قادمٌ لشمال الباطنة، لكنه إعصارُ المدرسة الإنسانية العُمانية في أبهى حُلَلِهِا، وأجمل صُورها، إنّه يوم الزحف الأكبر، في يوم جمعة التكاتف والتكافل والتراحم والمُواساة والبذل بما يملك العُماني من وقته وجهده وماله وما لا يملك.

قدَّم العمانيون في يوم الزحف دروسا لا درسا، ومواعظ لا موعظة للعالم بأسره، في جملة واحدة من ثلاث كلمات: "عمان عظيمة بشعبها"، وأنّ مفردات كالتكاتف والتكافل والبذل والرحمة والمواساة والتواضع والصبر، لأول مرة نراها تسير على قدمين في هيئة إنسان، في طُرُقات الباطنة، ولها عند العمانيين معنى آخر ملائكي مُقدس غير المعاني التي تغص بها بطون المعاجم العربية، تلك الصفات التي رأيناها ماثلة في الشعب العماني، هي نفسها التي دحرت الأعداء في الماضي من الاقتراب منها، وفرّوا هاربين راجعين يجرون أذيال الهزيمة، وهي ذاتها التي ردعت أعداء عمان في الحاضر، من اختراق النسيج العماني؛ فارتطموا بصخرة صماء، تفتت كل أمانيهم الخائبة تحت أقدامها.

وهنا يجب أن نقف قليلًا بعض الوقفات لنقول:

الوقفة الأولى: شعبٌ بهذه الصفات وبتلك الخِلال التي تقاصر القلم عن بلوغ كنهها والولوج إلى منتهاها، يجب أن يُفْتخر به ويُكرّم، ويُعزّ لا أن يُذل، ويُقدّم على غيره لا أنْ يؤخر، ويُقرّب لا أنْ يُبْعد، وأن تُغْتَفر زلة أبنائه، إن جانب أحدهم الصواب في يوم من الأيام.

الوقفة الثانية: ظهر معدن العماني الأصيل للقاصي والداني، وأنّ الاحتراق والشدائد لم تزده إلا لمعانا وبهاء وصفاء وقربا من الله عز وجل، وتعلقا به، وإصرارا وعزيمة على تخطي المِحَن مهما كانت شدتها.

الوقفة الثالثة: يوم الزحف الأكبر، بعث برسائل عدة للقريب والبعيد، بأنّ العمانيين لُحمة وطنية ويدا واحدة، إذا اشتكى عضو في مسندم، هبّت ظفار لنجدته والتخفيف عنه.

الوقفة الرابعة: يوم الزحف الأصغر والأكبر، أثبت للقريب والبعيد عكس ما يُشاع عن العُمانيين بأنّهم غير قادرين على العمل خارج الكراسي الوثيرة؛ فقد حجبوا- لله درهم- الشمس عن السطوع في شمال الباطنة وأضاءوا المكان بأفعالهم المشرّفة التي حجزت لها في صدارة صفحات التاريخ والمجد مكانا مميزا، ليتلوه الخلف عن السلف بصوتٍ عالٍ، نحن هنا إن يحن الموعدُ. يا أهل عُمان الكرام.. تعجز المعاني أن تلد لنا ألفاظا نَصِفَكم بها، والقلم يتصاغر أمام قاماتكم وهاماتكم ليصيغ تعبيرًا يفي بحقكم، ولكنّ التاريخ خطب فيكم خطبته، والدهر استاخ بسمعه لتلك الخطبة العظيمة فيكم؛ فخشع وأذعن وتأثر، وبكى وأبكى حتى ابتلت لحيته، وقال: هؤلاء ملائكة الأرض، يعني العمانيين.