حتى لا ننسى جيل الرائدات

هدى الغزالي.. ثمرة يانعة في شجرة المرأة (2)

د. مجدي العفيفي

(11)

من المحطات التي تمثل تجديدا للخطاب النسائي خاصة، والاجتماعي عامة، تلك المحطة الجميلة والجمالية يوم أسندت القيادة السياسية عام 1993 لـ«هدى الغزالي» مُهمة، لم تكن في حسبان المرأة في تلك الآونة: مهرجان الأزياء العُمانية، تقديما وتنظيما وتخطيطا.

قبلت هدى الغزالي التحدي.. وأقدمت على التَّجربة غير المسبوقة في أجواء المرأة العمانية، فجمعت بين ثنائية الوقار والإبهار، باعتبار أن الأزياء هي بمثابة أحد العناوين الحضارية والجمالية للشعوب، وقد تطورت أزياء المرأة العمانية في السنوات الأخيرة تمشيا مع عطاءات حياتها الحديثة، ومن ثم حرصت المرأة العمانية على التواصل بحديثها مع قديمها، فجددت أزياءها بما ينسجم مع عادات وتقاليد مجتمعها، بعيدا عن صرخات  الموضة.

قدمت هدى الغزالي المرأة العمانية في أول عرض للأزياء في تاريخها الحديث، وكل عناصره البشرية من فتيات عُمان، وأشهد أن هذا المهرجان- الذي انضوى تحت شعار (الأزياء العمانية بين التخلي والتحلي والتجلي)، لم يكن استعراضا لأزيائها، بقدر ما كان رسالة إلى التطوير والتأصيل في آن واحد، فاستلهمت الخطوط والتصاميم والألوان، وأجمع كل من شاهد المهرجان،  أنه اتسم بالحشمة والوقار، وأن ملمح الاحتشام وملمح الإبهار، قد اجتمعا معًا في ذلك العمل،خاصة أنها كانت المرة الأولى التي تقبل فيها حواء العمانية على تجربة تصميم الأزياء واستعراضها. ولا يزال هذا المهرجان معروضا في الميديا (على موقع يوتيوب) ولا يزال يستقطب التعجب والإعجاب على الرغم من مرور 28 عامًا على عرضه الأول.

وقد استأنست هدى الغزالي في طرح هذه الرؤية، بمقولة  للسلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- وكان الداعي لهذا المهرجان وكلف قيس الزواوي نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية والمالية - آنذاك - أضاءت  أجواء الحدث حروف المقولة القابوسية:«يتوجب علينا جميعاً أن نضع نصب أعيننا باستمرار أن التطور الذي نسعى إليه وننشده في جميع المجالات يجب أن يقوم في جوهره على أساس قوي من تراثنا العريق ووفقا لتقاليدنا وعاداتنا الموروثة ولواقع الحياة والظروف الموضوعية في مجتمعنا حتى يكون للتطوير مردوده الطيب لخير هذا الجيل والأجيال المتعاقبة».

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ هدى الغزالي  حددت رؤيتها بأن مهرجان الأزياء العمانية استضاء بثلاث قيم تتمثل في: (التخلي، والتحلي، والتجلي) بمعنى أنها «تخلت» عن المؤثرات التي اكتسبتها عبر مراحل التأثر والاحتكاك بالآخرين من شعوب وحضارات، و«تحلت» بمعطيات جديدة، فـ«تجلت» برموز معاصرة وأصيلة معاً، ومن ناحية ثالثة تبنت إجماع الخبراء في عالم الأزياء، وعلم الاجتماع، على حقيقة أن التغيير ليس بالضرورة أن يكون هو البحث عن الجديد، فأحيانا يكون التغيير، عودة إلى القديم، عودة إلى الأصل، عودة إلى الينابيع.

(12)

كان منظور هدى الغزالي يتسع للعمل الاجتماعي، لا سيما التطوعي، فترأست جمعية رعاية المعوقين كعمل تطوعي، وشاركت في كثير من المنتديات والمنظمات النسائية داخل عمان وخارجها، الى جانب عملها في  آخر المناصب التي تولتها كمستشارة لوزير الشؤون الاجتماعية والعمل، إيماناً منها بأن "العمل التطوعي هو أحد أسرار نجاح العمل الاجتماعي خاصة النسائى، وشريحة مثل شريحة المعوقين تستحق منا أجمعين الرعاية والنظرة الإنسانية التي تتعامل معهم على حد سواء، مع كل شرائح المجتمع بلا تفرقة، ويجب استثمار قدراتهم وتشجيعهم عى العطاء سواء بسواء من هنا كانت رئاستها لجمعيتهم عن طيب خاطر، بنفس القدر من العطاء الذي ساهمت به  في الهيئات والمنظمات المحلية والخارجية، التي تشكل نقاطا مضيئة في مسار العمل الاجتماعي وتستدعي التعاون الدائم لصالح المرأة العمانية والعربية ولصالح المجتمع بشكل عام".

(13)

نالت هدى الغزالي الكثير من مظاهر التكريم، الرسمي والأهلي، وداخليا وخارجيا، وأتذكر أثناء تكريمها من قبل الاتحاد النسائي الخليجي كرمز للمرأة العمانية، أنها كانت ترى أن كل تكريم للمرأة هو تكريم للرجل، وتكريمها دائما في صالح المجتمع، فالرجل والمرأة هما الجناحان اللذان يحلق بها طائر المجتمع إلى آفاق أكثر رحابة وانطلاقة، وأن هذا التكريم هو تعبير عن أن أوراق العمر لم تكن إلا مسطورة بالكفاح، وأن سنوات العمر يتوجها  النجاح، ويؤكد على أن دور المرأة في مجتمعنا إنما هو دور فعَّال، فهي ليست قطعة ديكور جمالية، ولا واجهة تكميلية، إنما هي  فعل وعقل وتفكير، مثلما هي وجدان وقلب ومشاعر، إنها تفعل وتنفعل وتتفاعل حتى تتكامل النظرة إلى الحياة.

وأستذكر أنها قالت لي في حوارية من حوارياتنا الكثيرة، أن هذا التكريم يعني أنه لا عودة إلى عصر الحريم، وأن الذين يشدون المجتمع إلى الوراء، هم أناس يعيشون خارج العصر وخارج الزمن؛ بل كانت تلك الاحتفالية الكبيرة، تحمّــل المرأة الخليجية والعربية عموما، مزيدا من المسؤولية إزاء مجتمعها الصغير والكبير.

(14)

تحتفظ الذاكرة العمانية الحديثة لهدى الغزالي بأن لها السبق والجهد في صياغة قانون التقاعد العسكري، وقد نالت شهادة ماجستير في العلوم العسكرية من القاهرة عن هذا القانون، وزارة الدفاع، في المرحلة المبكرة من مسيرة النهضة.

هذا أمر، والأمر الآخر الذي يحمل بصمتها الاجتماعية أنها أسهمت بجدية، وبلا كلل في تأسيس وتثبيت حقوق الطفل، قانونيا وشرعيا ومجتمعيا، وتوسيع دوائر الوعي في منظور المرأة والمجتمع. وبذلت جهدا ملحوظا ومبكرا في ترسيخ منظومة المرأة العمانية من خلل تطوير العمل النسائي، وزيادة عدد جمعيات المرأة. في أرجاء السلطنة، والمساهمة في رفع الوعي لدى المجتمع في تعامله الحضاري مع المرأة. 

كان دورها خلاقاً في وجود وتواجد المرأة بشكل أكثر جلاء على خريطة المُجتمع الذي ساعدها بدوره، حين تقبل خطواتها الجديدة قبولاً حسناً، وأحسنت هي التعامل بالتفاعل، سعياً إلى التكامل مع الرجل، ليحلق طائر المجتمع بجناحيه، أخذاً وعطاءً، في معادلة تستمد أطرافها من الرؤية التي تنتظم مسارات المجتمع.

(15)

في أول انتخابات عام 1994 دخلت المرأة معترك الحياة السياسية النيابية حين تم إطلاق حق التمثيل السياسي للمرأة العمانية تصويتا وترشيحا، وتلقى المجتمع بكل شرائحه هذا الحدث بارتياح بالغ، وألقى بظلاله على فئاته كافة، ورصدته المراكز البحثية والاتحادات البرلمانية، كأول حدث عماني خليجي من نوعه. وكانت هدى الغزالي من أوائل المترشحين للانتخابات عن ولاية مطرح، بل كانت شعلة من الحماس  في ظلال الكلمة العظيمة للسلطان قابوس في حديثه بالصحافة الأجنبية عام 1995 «منذ مدة طويلة وأنا أعتقد أن إبعاد المرأة من لعب دور حيوي في حياة البلاد يعني في الأساس استبعاد 50% من إمكانيات وطاقات البلاد، واليوم فقد بلغت المعايير التعليمية وسط النساء مستويات مرضية، وأصبح من الواضح أنهن على استعداد لقبول المسؤوليات الدقيقة، للتعبير عن الرأي السياسي» ولقد حققت فوزا كاسحا وكانت حديث الصحافة والمجتمع، وكنت من المراقبين إعلاميا لهذا الحدث الكبير، لكن لظروف ما، لم تكمل الفائزة الطريق (!!)

(16)

كل ما قدمته هدى الغزالي، ما كان ليتم إلا من خلال حراكها المحسوب وحركتها الدائبة، في  فضاء المرأة، وهي التي شغلت العديد من المهام والمناصب من قبيل: رئيس وفد المرأة العمانية في المؤتمر العالمي الثالث للمرأة في نيروبي عام 1985، رئيس وفد المرأة العمانية في مؤتمر المرأة العالمي لدول عدم الانحياز 1985، رئيس اللجنة التنظيمية للمؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج عام 1986، ترأست وفد السلطنة في المؤتمر الخامس للمرأة في الخليج والجزيرة العربية بدولة البحرين عام 1989، ترأست وفد المرأة العمانية في المؤتمر العالمي الرابع للمرأة الذي أقامته الأمم المتحدة في بكين في الرابع من سبتمبر عام 1995، شغلت عضوية جمعية المرأة العمانية بمسقط 1972، رئيس لجنة ثقافة الطفل باللجنة الوطنية لرعاية الطفولة 1986 - 1994، مساعد العلاقات الخارجية في لجنة تنسيق العمل النسائي، رئيس لجنة تخطيط وتنفيذ مهرجانات الطفولة (الأول 1990 الثاني 1993 الثالث 1995) ثم عضو مجلس الأمناء المنتدب بالمجلس العربي للطفولة.

(18)

تخبرنا مفكرة الأيام الاجتماعية أن هدى الغزالي مثلَّت عُمان في الخارج، فقد ألقت العديد من المحاضرات في عدة جامعات عالمية، ومنها«جامعة ليدن» (LEIDEN) أعرق وأقدم جامعة في أوروبا من عام 1575. وفي برلمانات عربية وأجنبية، مراكز بحثية في الولايات المتحدة، الأمريكية، والمملكة المتحدة، وهولندا، والسويد، وغيرها، قدمت الكثير من أوراق العمل في المؤتمرات والمنتديات العربية والأجنبية، خاطبت العالم بالحديث عن شواهد متعددة من التاريخ العماني، قدمت هناك شرائح من ملمح الحضارة العمانية، عرضت لهم صورا أصيلة ومعاصرة وحديثة عن المرأة العمانية.

(19)

تم تكريم هدى الغزالي من قبل الاتحاد النسائي كرمز للمرأة العمانية، ووسام الخدمة الممتازة من وزارة الدفاع، كأول امرأة عمانية تحصل عليه، جائزة تميز المرأة في مجال التنمية الاجتماعية من المؤتمر العالمي للمرأة في نيروبي، هذا إلى جانب العديد من شهادات التقدير والتكريم من جهات محلية وخارجية، شهدت لها وكتبت عنها عشرات من كبرى الصحف والمجلات والدوريات في عُمان والخليج والعالم العربي والعالم الخارجي.