سماء عيسى يستنطق أركيولوجيا عمان في "الحنين إلى طوبى"

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

في كتاب "الحنين إلى طوبى" الصادر قبل أيام، تتبدى شخصية الشاعر سماء عيسى؛ متشظيةً، ومرآةً متكسرة الزوايا تتكامل حوافها، وتتباعد، وتستطيل وتحدودب؛ فتارةً يطغى أسلوب الباحث التاريخي المتكيء على المنهج التكاملي فيجنح إلى الاستقراء مرةً، ويرتقي سلم الاستنباط مراتٍ، ويتمنطق بحزام التحليل المنهجي أحايين كثيرة، وفي غير مرةٍ يقتفي أثر السابقين، وغالبًا يشتغل باستراتيجية "الوصف الجغرافي" ليحاور الأبنية المعمارية مستندًا إلى لغةٍ شاعريةٍ شفيفةٍ؛ إلا أن "شخصية الرحالة الطواف" هي عمدة الكتابة، و"الرواي العليم" على مدار صفحات كتابه "الحنين إلى طوبى".

وتعد "الواقعية السحرية" بمثابة القماشة السينمائية البيضاء التي يستدعي المؤلف إليها الحضارة العمانية؛ مشكلا سفيسفاء تاريخية وطبوغرافيا واضحة المعالم والآثار، يغوص على أرضيتها الرحبة في المخطوطات، ويجلس إلى العلماء، ويستنطق التاريخ، ويرحل عبر الفيافي والأودية، ليقف على الأطلال المندرسة، ويعاين الشواهد والآثار ويقرأ النقوش، في الزوايا والأضرحة والقلاع والمحاريب، ويتأمل "صنع الله" في حضرة الزهاد والعباد، ويؤرخ للأنساب والأعيان.

"الحنين إلى طوبى" كتاب موسوعي-على ما أعتقد- يسعى إلى إنجاز جغرافيا تاريخيةٍ وروحية إبداعية لعُمان، يغذيها مخيال حضاري متجذر ومتوارث في الشخصية العمانية تتناقله الجينات الوراثية من جيل إلى جيلٍ. ويشرع الكاتب الباب على مصراعيه للباحثين لينتقي كل طالب علمٍ شذرةً من هذا الكتاب المُعجَمي في بنيته ورؤاه؛ ليقيم منها بحثًا رصينًا يُعيد بناء الصور التاريخية المتباعدة، ويساهم في استرجاع الحيوات البائدة والمنسية في زوايا الحضارة العمانية والمتوزعة على رقعةٍ جغرافيةٍ واسعةٍ من خارطة البسيطة مازال صداها يتردد على ألسنة الفرس والعرب، وبلاد الفراعنة، وعبر "قرى النهر الأصفر ونهر يانغتزي" في بلاد آسيا وحواضر الهند.

تتصدر المرأة العمانية "أمهات الأرض" كتاب "الحنين إلى طوبى"؛ لتكون النواة المركزية وينطلق المؤلف من سيرتها المتدثرة في بطون الكتب عبر سفرٍ رصينٍ تحدوه الرغبة في استكناه الحقيقة وسبر أغوار التاريخ، والكشف عن المخبوء من الأحدث قصدًا في أغلبه، ومهملا في معظمه، والنبش بين طبقاته الرسوبية المتراكمة والبحث فيما طمرته الرؤية الذكورية عبر قرونٍ متتاليةٍ تغذيها رؤى مرضية من كتاب التاريخ الرسمي سادت واستطالت ووضعت يدها على التاريخ، وصادرت الكثير من الأحداث، ومحت العديد من الوقائع وطمست بسناج نساخها صفحاتٍ بيضاء من تاريخنا العربي والإسلامي ولم تر فيه غير تاريخٍ للرجال.

لم يبنِ سماء عيسى محتوى كتابه بطريقةٍ عموديةٍ، ولم يصفف أفكاره في خط طولي بما يتناسب مع المنهجية التاريخية التقليدية؛ وهي مركبٌ سهل الإبحار به في علم دراسة التاريخ للأعم الأغلب من الباحثين والأكاديميين المغرمين بنقطة البداية وخاتمة النهاية المزركشة بهوامش منقوشةٍ بعلامات الترقيم لزوم الرصانة الشكلانية، وما تقتضيه بنية السرد التاريخي وأضابير السير الذاتية للأعلام والحواشي الشارحة، في عملية تتابعٍ تراكمي ومنطقي من وجهة نظر الدرس الأكاديمي العربي. وإنما فضّل المؤلف منهجية "الدوائر المنبعثة من المركز"، كاستراتيجيةٍ في قراءة التاريخ بمنطق الأحداث المتقاطعة، وتحاور الأفكار المشتبكة المتناقضة لا المتوائمة، بما يتناسب واستراتيجية الحوار متعدد الأطراف مع المخطوطات، والوقائع، والآثار، والعمارة، والمرويات، والمقابلات مع شخصياتٍ متخصصةٍ أو على صلةٍ بالأحداث مستعينًا بتكنيك الاستقصاء العلمي المستند لاشتراطات فن التحقيق الصحفي المعمق.

ولأن شخصية سماء عيسى تجنح إلى العزلة الصوفية، ولا تنكفء على ذاتها، وتنتهج التأمل الذاتي، ولا تمارس القطيعة مع العالم، وتؤسس رؤيةً متجددةً ولا حدود لعالمها الشعري والفكري؛ فإنه وضع في مقطعٍ آخر من الكتاب (مانيفستو/ بيانًا إبداعيًا) جديرًا بالدراسة من قبل مؤرخي تاريخ الأدب العربي المعاصر وخاصةً في دول الخليج العربية تحت عنوان: "آفاق كتابة تَتجدَّد تجدُّد الحياة"، وفي تقاطعٍ آخر من الكتاب يعرج سماء عيسى على "الإبداع الصوفي العماني"، وينطلق منه باتجاه قراءةٍ نقدية لخارطة "السفر الروحي في الشعر العماني"، مجدولا بتجربة "التشكيلي حسن مير، ولوحاتٍ فنيةٍ لأطفال مرضى السرطان" متقاطعًا مع "البعد الروحي في السينما".

وفي الأخير.. من السذاجة أن يتعامى القاريء غير المتمرس أو يتغافل عن الخيط الرفيع الرابط بين وشائج وأبواب الكتاب، أو يعجز عن رؤية خطوط الاتصال اللامرئية بين الموضوعات، والعناوين؛ حيث تتجلى اللغة الشعرية، والمفردات الترميزية، والعبارات المشحونة بالمجاز، والأسطر المكتنزة بالصور البيانية والمشاهد السينمائية، والقصص القصيرة النابتة على حواف الكتابة.