إلى الجنّة

 

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

"أيّهذا الناجي من العواصف بعاصفة، أيّهذا الطاهر في وحل المفارقات!"، محمود درويش.

 

***

أغلق النوافذ.. ثم أحاط كل نافذة بشريط لاصق حتّى لا تتسرب مياه المطر للداخل.. بينما وقفت العاملة على مسافة قريبة منه، توجه له المزيد من التعليمات بلكنتها الطريفة وعيونها الغاضبة!

ولم يكن لينزعج منها، فهي تقيم معهم منذ ما يزيد على الثماني سنوات، واعتاد هو وزوجته وأطفاله تذمرها، وغضبها، وصراخها أحياناً بعد يوم شاق من التنظيف وإعداد الطعام؛ لتسمع صوت ربة المنزل نادية:

  • لونا.. اكنسي المكان!
  • اكنسيه أنتِ، كنسته ثلاث مرّات هذا اليوم!
  • تعالي واكنسيه!

فتقف أمامها واضعة يدا على خصرها، وتلقي بالقرب منها المكنسة وتغلق الباب، وهي تردد:

  • حريم آخر زمن!

فتنهض نادية من مكانها ضاحكة وتكنس المكان وتطلب من أحد الأبناء الذهاب بالمكنسة إلى المطبخ، ويصلها صوت العاملة من بعيد:

  • مدام شاطر!

كانت نادية في بداية الأمر تثور غضباً لأتفه تصرف يصدر من العاملة، وكان زوجها يردد عليها يوميًا:

-" إذا وليتم فارحموا".

فتغيرت تصرفاتها تجاه العاملة، وتخلت عن غطرسة بعض ربّات البيوت، بل كانت تعي غضبها ومزاجها وتحملها لعائلة مكونة من خمسة أطفال مشاغبين، بل تخيلت أنّها هي العاملة في هذا المنزل، وعندها أدركت أنّ الثمانين ريالا التي يجودون بها عليها آخر الشهر لا تفي حقّها، رفعوا راتبها إلى مائة ريال، ثم إلى مائة وعشرين، إلى أن وصل إلى مائة وخمسين ريالا..

وكانت مع كل زيادة في راتبها تعدّ لهم حفلة بسيطة وعشاءً لذيذا، وتقول لهم:

  • أنتم أهلي!

وتنتهي الحفلة بقليل من الدموع، وكثير من الأوامر والتنبيهات للحفاظ على نظافة المكان، وعدم تفتيت الكعك على الأرض، ومن يفعل ذلك!

  • تلقي قربه المكنسة!

لكنّ منظر السحاب الأسود، سرّب إلى قلبها الكثير من الرعب، فهل ستفيد المكنسة أو الممسحة في تنظيف المكان! وهي تدرك جيدا معنى كلمة إعصار، وتعي كذلك أن هذا الشريط اللاصق الذي وضعه رب الأسرة راشد لن يغني ولن يسمن من جوع، إذا حدث أن مرّ الإعصار في منطقتهم.

  • لونا!
  • نعم مدام!
  • الغداء؟

فذهبت إلى المطبخ لإعداد الغداء، ووضعت الأطباق، وسكبت للجميع عداها؛ فالشعور بالخوف كان يغطي شعورها بالجوع، بل لم تأكل شيئا منذ البارحة، منذ سماع الأخبار، ومشاهدة مقاطع الفيديو لدوريات الشرطة المحذرة لكل من يقطن الشريط الساحلي:

  • الرجاء الإخلاء!

بل اتصلت بها عائلتها تطلب منها الحذر والانتباه وأن تطمئنهم عليها.. ويدعون علهم بالسلامة والحفظ، فطمأنتهم إلى أنّها تقطن في مكان بعيد عن تأثير الإعصار..كانت تكذب حتّى لا تثير خوفهم وهلعهم عليها.. لكنّ شعورها بالرعب الذي يغمر قلبها مقابل برود راشد ونادية وأطفالهم الذين أخذوا يتقاذفون الأكواب ويعتدي كل واحد على الآخر بسكب صحنه أمام راشد الذي يكمل طعامه دون الالتفات إلى ما يفعلون، ونادية التي تتابع الهاتف وهي تتناول طعامها، وتخبر راشد الذي يهز رأسه، وباله مشغول في شيء آخر!

شيء لا أحد يدركه غيره، حتّى محاولات زوجته في الكشف عمّا يدور في ذهنه باءت بالفشل، فاستسلمت أمام خياله الشارد، وأمام طيش أولادها، وأمام تنبيهات لونا المستمرة لأبنائها لتقويم سلوكهم! رغم أنّها اليوم صامتة!

  • لونا.. لماذا لا تأكلين؟!
  • سأذهب إلى السطح لإنزال السجّادة! نسيت إنزالها، سيبللها المطر!

ولأول مرة تذهب لونا لإنزال السجّادة، لأنّ هذه المهمة موكلة لراشد! هو من يرفع السجّاد الوسخ، وهي تقوم بغسله، وهو من ينزله!

وعندما ابتعدت قالت نادية لراشد:

  • لونا.. خائفة!

اكتفى بالنظر ثم نهض لغسل يديه.. وأخذ الشريط اللاصق ليكمل بقية الغرف!

بينما وضعت نادية الأطباق والملاعق والأكواب في المغسلة، وقامت بغسلها دون الاتّكال على لونا شاردة الذهن، والتي أنزلت السجّادة رغم ثقلها، ووضعتها في مخزن المطبخ! قالت لها نادية:

  • ألن تفرشيها!
  • أفرشها للمطر!
  • لن يدخل المطر إن شاء الله! افرشيها في الصالة!
  • سأفرشها بعد الإعصار! ثم لماذا غسلتِ الأطباق؟!
  • أساعدك!

نظرت لها نظرة ذات مغزى، مزيجا بين الامتنان والعتاب، وغادرت المطبخ إلى غرفتها.. وأخرجت حقيبة صغيرة وضعت فيها بعض الأغراض الشخصية، وكأنّها ستكون مضطرة للمغادرة، للرحيل، تحسبّا لأي طارئ!

وقفت نادية لتشاهد لونا وهي تعدّ الحقيبة الصغيرة، وقالت لها ضاحكة:

  • هل ستهربين؟!
  • احتياط إذا حدث إجلاء عن المنطقة!
  • الإعصار بعيد يا لونا! لا تخافي!

أخرجت علبة بها سلسلة وخاتما وأقراطا من الذهب، وطلبت من نادية وضعها في الخزانة الحديدية في المنزل، وقالت لها:

  • أمانة!
  • لماذا خلعتِ ذهبك؟ أنتِ تبالغين يا لونا! ارتديه مرّة أخرى.. لن يحدث إلّا الخير عزيزتي.

فما كان من لونا إلّا أن جلست على السرير تبكي بكاءً مرّاً:

  • أنتِ لا تعرفين الموت في الغربة!

جلست قربها نادية مواسية، بعد أن بكت معها، وحاولت استجماع كلمات المواساة من ذاكرتها المعطوبة بسبب أطفالها وشغبهم، وتذكرت أكثر عبارة كانت ترددها والدتها أيام النكبات:

  • "قل لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا".

غادرت نادية الغرفة، وجلست قرب راشد المنهمك في متابعة الأخبار، وتتبع مسار الإعصار، حيث يشير تقارير الأرصاد الجوية إلى أنّ جدار الإعصار يبعد عن منطقتهم 120 كم تقريبا، لكنّ السماء تلبّدت بالغيوم السوداء، بل بدأ المطر يتخذ إيقاعا أقرب لقرع طبول الحرب، وقالت لراشد:

  • لماذا لا نغادر المنزل؟
  • لماذا نغادره؟!

كان راشد مقتنعا أنّ المكان لا يعني شيئا أمام هول رياح الإعصار وسيوله الجارفة، فاتّساع رقعته، وخطورته يلغي نسبة الأمن لجميع الأماكن في أي منطقة سيصل إليها، وليس أمامهم إلّا الالتزام بالتعليمات والدعاء، والتسليم المطلق بقدرة الله على تغيير الأقدار، ولا أحد يعلم حكمته في هذه الابتلاءات، وفي نهاية المطاف، سيكون الموت وسيلة الانتقاء، ومن يحبهم الله سيأخذهم إلى جواره!

لامست كلماته شغاف قلبها، وشعرت بطمأنينة لم تشعر بها منذ بدأت أخبار الإعصار في الانتشار، واتجّهت إلى غرفة الأولاد لتشاركهم اللعب، وتركت الهاتف جانبا، متأملة في رحمة الله وفي لطف الله.

مرّت ساعة، ساعتين، وسمعت صوت تهشم في صالة المنزل، واختبأ أطفالها في حضنها، واتّجه راشد لهم وتبعته لونا، وهو يقول لها بعد أن حمل أصغر أطفاله وأمسك بالثاني في يده، أسرعوا إلى السطح الماء يغرق المكان، كان الماء ينهمر عليهم من جميع الجهات، وكانت لونا تمسك إطار الدرج بيد وهي تقاوم الماء الذي يجذبها للأسفل، وباليد الأخرى أحد الأبناء المرعوبين تساعده على صعود الدرج. وصلوا جميعا غرفة الدرج الضيقة وتكوّموا على بعض، خوفا ورعبا من المطر والريح العاصفة التي جعلتهم يذكرون الشهادة ما بين صراخ وعويل الأطفال - خاصّة أصغرهم وهو مختبئ في حضن راشد- غير مستوعبين مصيرهم كيف سيكون، لكنهم كانوا جميعا يرددون:

  • يا رب لطفك.
  • يا رب رحمتك.

وشعروا كأنّ جدران البيت تتهاوى.. ولصقت كلمة (الله) في حلوقهم وهم يرددونها خوفا وجزعًا، بل حبّا لأنّ الله اختارهم وأرادهم أن يكون مساؤهم معه، قربه، وفي جنته!

انتهت العاصفة، وانحسر ماء الإعصار، وجدوا جثث العائلة، الزوج والزوجة وخمسة أطفال، وجثة عاملة كانت ترتدي سلسلة وأقراطا وخاتما من ذهب!

(النهاية)

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك