تواصل العقول.. وصنع المستقبل

 

د. صالح الفهدي

لم يكن غريباً على دولة الإِمارات العربية المتحدة عامَّةً، وإمارةِ دبي خاصَّةً أن يحملَ حدثها التاريخي "إكسبو 2020" عنوان "تواصل العقول، وصنع المستقبل"؛ فالعنوانُ ليسَ عَرَضاً عليها، وإنَّما توُّجهٌ استراتيجيٌ تترسَّمُ خططها التنموية، وتطلعاتها المستقبلية آثاره، حتى أصبحت تتميَّزُ في إنتاج الأَفكار السبَّاقة لصنع المستقبل، بفضلِ تواصلِها مع العقول العبقرية، وتقديرها للكفاءات، وتأهيلها للقدرات، وأصبح استشراف المستقبل هو الجوهر الأصيل لكلِّ رؤيةٍ تنمويةٍ إماراتيةٍ طموحة.

ولم تكن فكرة "القمة العالمية للحكومات" فكرةً طارئةً وإِنما هي فكرةٌ من شقَّين: الأول هو أنَّ إرادة دولة الإمارات العربية المتحدة في تأسيس قاعدةٍ تنطلقُ منها حكومات المستقبل، ولهذا تستضيف إلى جانبِ الندوات دولاً لها تجاربها الناجحة في مجالات حياتية فاعلة في التنمية الإِنسانية والعمرانية، أَذكر آخرها رواندا (في الأمن، والسياحةِ والوحدة)، وكوستاريكا في (الاقتصادِ الأخضر)، وأستونيا في (التحوُّل الرقمي).

أمَّا الشِّق الثاني: فهو تصدير تجارب دولة الإمارات العربية المتحدة فيما يتعلَّق بصنع المستقبل إلى دول العالم للاستفادةِ منها، وهذا يندرجُ في إطار مصطلح "القوَّة الناعمة"، وهو مصطلحٌ نَحَته جوزيف ناي في مجلة (Foreign Policy) عام 1990.

وهُنا فإنَّ أعظم تمثُّلات القوة الناعمة لدولة الإِمارات العربية المُتحدة يكمنُ في صناعة المستقبل، من خلال تشكيلة الحكومة وآليات عملها، يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس الوزراء وحاكم دبي- خلال تخريج 120 موظفاً حكومياً من المُنتسبين لبرنامج استشراف المُستقبل-: "نعي في دولة الإمارات ما تحمله موجة التغيير العالمية التي تشكلها التكنولوجيا الحديثة والعلوم المتقدمة والتقلبات الاقتصادية من تحديات كبيرة تواجه العالم، وندركُ أن استباق تحديات المستقبل وتحويلها إلى فرص يمثل أفضل السُّبل لمواجهتها".

وفي نطاقِ هذه "القوة الناعمة" لصناعة المستقبل، أنشأت حكومة للمستقبل تقوم على عدَّة مرتكزات، وخصَّصت وزارة تتعلَّقُ بالمستقبل هدفها "الاستشراف المبكِّر للفرص والتحديات في كافة القطاعات الحيوية في الدولة وتحليلها ووضع الخطط الاستباقية بعيدة المدى لها على كافة المستويات لتحقيق إنجازات نوعية لخدمة مصالح الدولة"، ووسَّعت رؤيتها لتكون أشملَ وأطول فكانت "الرؤية المئوية 2071" فشكَّلت خريطة واضحة للعمل الحكومي الطويل المدى؛ لتعزيز سمعة الدولة وقوتها الناعمة، وسعت إلى الاستثمار في شباب الدولة، وتجهيزهم بالمهارات والمعارف التي تستجيب للتغيرات المتسارعة، والعمل كي تكون دولة الإمارات أفضل دولة في العالم بحلول الذكرى المئوية لقيام دولة الإمارات العربية المتحدة وذلك في العام 2071.

القوة الناعمة تعتمدُ على العقول المبدعة، والقيم الأصيلة، فالعقولُ تستطيعُ أن تنتج ما لا يمكنُ تخيُّله من مبتكرات لم تعرفها البشرية في حال إتاحةِ المجال لها للإِبداع والإبتكار، والإعتناء بأفكارها، واحتضانها وعدم التفريط فيها، وهي في ذلك المسعى ترتكزُ على قيمٍ ذات أصالة، ومَكَنة تساعدها على تحديد الهدف، وتضمنُ لها سلامة المسعى، وصواب الرؤية.

نعودُ إلى عنوان "إكسبو 2020"؛ لنجدَ فيه عنوانَ توجِّهٍ لا مناصَ منه لدولِ العالم أجمع في عالم مضطرب الأحداث، إن هي قد وعَتْ معناه، وعملت به فقد استطاعت أن تحقق إنجازاتٍ جبَّارة، وإن هي لم تر فيه إلا الكلمات البرَّاقة فقد ضيَّعت على نفسها فرصة الإِستفادةِ منه.

إنَّ تواصل العقولُ يعني تواصلَ حضاراتٍ وثقافات وعلوم ومعارف وتجارب ورؤى من أجلِ عالمٍ مليءٍ بالفرص السَّانحة المُبتكرة التي لا تضرُّ الكوكب الذي نعيشُ فيه، بل تسعى إلى تجنيبه الكوارث الطبيعية بفضل ما تنتجهُ العقول من أفكارٍ خلاَّقة كالحلول التي تخفَّض الانبعاثات الحرارية، والتدمير المتعمد للغابات.

أمَّا صنع المستقبل فهو الفضاءُ الفكري الذي يتأمَّل فيه الخيالُ الإنساني المُبدع، وحين يُصبحُ هو الفضاء المُتاح فإنَّ العقول المُبدعة تتواصلُ في مجالهِ الرَّحب لا يُعيقها عائقٌ من تحقيق أفكارها الخلَّاقة.

لقد وسَّعتْ دولة الإِمارات العربية المتحدة مفهوم الإِبداع الذي كانت تُناقشه في "قمَّةِ حكومات العالم" والذي لا يتعدَّى بضعةِ أيامٍ، إلى مؤتمرٍ عالميٍّ واسعٍ هو "إكسبو 2020"، يحضرهُ العالم أجمع، ويستمرُّ لنصفِ عام، ليخرجَ منه من يملكُ الإرادة والرغبة والقيادة وقد تحصَّل على ما يُريدُ لصنع المُستقبل، وتلك فرصةٌ مجانيَّةٌ لأية دولة ترنو إلى التطوُّر الحقيقي، وإلى التقدِّم الواقعي، وإلى البناءِ الأصيل.